فأجاب فضيلته بقوله: هذه المسألة - أي مسألة القدر- محل جدل بين البشر من قديم الزمان، ولذلك انقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام: طرفين، ووسط. أما الطرفان:
فأحدهما: نظر إلى عموم قدر الله فعمي عن اختيار العبد. وقال: إنه مجبر على أفعاله، وليس له فيها أي اختيار، فسقوط الإنسان من السقف بالريح ونحوها كنزوله منه مختارا من الدرج.
وأما الطرف الثاني: فنظر إلى أن العبد فاعل، تارك باختياره، فعمي عن قدر الله، وقال: إن العبد مستقل بأفعاله، ولا تعلق لقدر الله - تعالى - فيها.
وأما الوسط: فأبصروا السببين، فنظروا إلى عموم قدر الله- تعالى - وإلى اختيار العبد، فقالوا: إن فعل العبد كائن بقدر الله - تعالى - وباختيار العبد، وإنه يعلم بالضرورة الفرق بين سقوط الإنسان من السقف بالريح ونحوها، ونزوله منه مختارا من الدرج، فالأول: من فعله بغير اختياره، والثاني: باختياره، والكل منهما واقع بقضاء الله وقدره، لا يقع في ملكه ما لا يريد، لكن ما وقع باختيار العبد فهو مناط التكليف، ولا حجة له بالقدر في مخالفة ما كلف به من أوامر أو نواه، وذلك؛ لأنه يقدم على المخالفة حين يقدم عليها وهو لا يعلم ما قدر الله عليه، فيكون إقدامه الاختياري على المخالفة هو سبب العقوبة، سواء كانت في الدنيا أم في الآخرة، ولذلك لو أجبره مجبر على المخالفة، لم يثبت عليه حكم المخالفة، ولا يعاقب عليها؛ لثبوت عذره حينئذ.
وإذا كان الإنسان يدرك أن هروبه من النار إلى موضع يأمن فيه منها يكون باختياره، وأن تقدمه إلى بيت جميل واسع طيب المسكن ليسكنه يكون باختياره أيضا، مع إيمانه أن هروبه وتقدمه المذكورين واقعان