أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة، فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجره، وإذا كانت دون ذلك فإننا نتوقف في هجره؛ إن كان في هجره مصلحة فعلناه، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه، وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لا يحل لرجل مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث» فكل مؤمن وإن كان فاسقًا فإنه يحرم هجره ما لم يكن في الهجر مصلحة، فإذا كان في الهجر مصلحة هجرناه؛ لأن الهجر حينئذ دواء، أما إذا لم يكن فيه مصلحة أو كان فيه زيادة في المعصية والعتو، فإن ما لا مصلحة فيه تركه هو المصلحة.
فإن قال قائل: يرد على ذلك أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هجر كعب بن مالك وصاحبيه الذين تخلفوا عن غزوة تبوك؟
فالجواب: أن هذا حصل من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأمر الصحابة بهجرهم لأن في هجرهم فائدة عظيمة، فقد ازدادوا تمسكًا بما هم عليه حتى إن كعب بن مالك - رضي الله عنه- جاءه كتاب من ملك غسان يقول: فيه بأنه سمع أن صاحبك -يعني الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد جفاك وأنك لست بدار هوان ولا مذلة فالحق بنا نواسك. فقام كعب مع ما هو عليه من الضيق والشدة وأخذ الكتاب وذهب به وأحرقه في التنور. فهؤلاء حصل في هجرهم مصلحة عظيمة، ثم النتيجة التي لا يعادلها نتيجة أن الله أنزل فيهم قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة قال -تعالى-: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الآيتان.