والهداية زعم أن ذلك منه ثم من به على الله، وقال: أنا أتيت به من عند نفسي، فيكون قدريا في جانب الطاعة، جبريا في جانب المعصية، هذا لا يمكن أبدا، فالإنسان في الحقيقة له قدرة وله اختيار، وليس باب الهداية بأخفى من باب الرزق وبأخفى من أبواب طلب العلم، والإنسان كما هو معلوم لدى الجميع قد قدر له ما قدر من الرزق، ومع ذلك هو يسعى في أسباب الرزق في بلده وخارج بلده يمينا وشمالا، لا يجلس في بيته ويقول: إن قدر لي رزق فإنه يأتيني، بل هو يسعى في أسباب الرزق مع أن الرزق نفسه مقرون بالعمل كما ثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه:«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد» .
فهذا الرزق أيضا مكتوب كما أن العمل من صالح أو سيئ مكتوب، فما بالك تذهب يمينا وشمالا وتجوب الأرض والفيافي طلبا لرزق الدنيا، ولا تعمل عملا صالحا لطلب رزق الآخرة والفوز بدار النعيم؟ ! إن البابين واحد ليس بينهما فرق، فكما أنك تسعى لرزقك وتسعى لحياتك وامتداد أجلك فإذا مرضت بمرض ذهبت إلى أقطار الدنيا تريد الطبيب الماهر الذي يداوي مرضك، ومع ذلك فإن لك ما قدر من الأجل لا يزيد ولا ينقص، ولست تعتمد على هذا وتقول: أبقى في بيتي مريضا طريحا وإن قدر الله لي أن يمتد الأجل امتد، بل نجدك تسعى بكل ما تستطيع من قوة وبحث لتبحث عن الطبيب الذي ترى أنه أقرب الناس أن يقدر الله الشفاء على يديه، فلماذا لا يكون عملك في طريق الآخرة وفي العمل الصالح كطريقك فيما تعمل للدنيا؟ ! وقد سبق أن قلنا: إن القضاء سر مكتوم لا يمكن أن تعلم عنه، فأنت الآن بين طريقين: طريق يؤدي بك إلى السلامة وإلى الفوز