وذهب هؤلاء إلى أن النبي - صلَّى الله عليه وسلم - إنما ردّه مرة بعد أخرى للشبهة التي داخلته في أمره، ولذلك سأل هل به جِنَّةٌ أو خَبَل؟ وقال لهم: "استنكهوه" أي: لعله شرب ما أذهب عقله وجعل يستفسره الزنى، فقال: "لعلك قبَّلت؟ " "لعلك لمستَ؟ " إلى أن أقر بصريح الزنى، فزالت عند ذلك الشبهة فأمر برجمه، وإنما لزم الحكم عنده بقراره في الرابعة؛ لأن الكشف إنما وقع به، ولم يتعلق بما قبله. واستدلوا في ذلك بقول الجُهنية: لعلك تريد أن تردّدني كما رددت ماعزاً؟ فعُلم أن الترديد لم يكن شرطاً في الحكم، وإنما كان من أجل الشبهة. قالوا: وأما قوله: "قد قلتها أربع مرات" فقد يحتمل أن يكون معناه: أنك قلتها أربع مرات، فتبيَّنتُ عند إقرارك في الرابعة أنك صحيح العقل، ليست بك آفةٌ تمنع من قبول قولك، فيكون معنى التكرار راجعاً إلى هذا. وفي قوله: "هلا تركتموه" دليل على أن الرجل إذا أقر بالزنى، ثم رجع عنه دُفع عنه الحدُّ سواء وقع به الحد أو لم يقع. إلى هذا ذهب عطاء بن أبي رباح والزهري وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وأصحابه، وكذلك قال الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقال مالك بن أنس وابن أبي ليلى وأبو ثور: لا يُقبل رجوعه ولا يُدفع عنه الحد، وكذلك قال أهل الظاهر. وروي ذلك عن الحسن البصري وسعيد بن جبير. وروي معنى ذلك عن جابر بن عبد الله. وتأولوا قوله: "هلا تركتموه" أي: لينظر في أمره ويستثبت المعنى الذي هرب من أجله. قالوا: ولو كان القتل عنه ساقطاً لصار مقتولاً خطأ، وكانت الدية على عواقلهم، فلما لم تلزمهم ديته دل على أن قتله كان واجبا. قلت [القائل الخطابي]: وفي قوله: "هلا تركتموه" على معنى المذهب الأول دليل على أنه لا شيء على من رمى كافراً، فأسلم قبل أن يقع السهم، وكذلك المأذون له في قتل رجل قصاصاً فلما تنحى عنه عفا وليُّ الدم عنه. وكذلك قال هؤلاء في شارب الخمر إذا قال: كذبتُ، فإنه يُكَفُّ عنه. وكذلك السارق إذا قال: كذبتُ، لم تُقطع يده. ولكن لا تسقط الغرامة عنه لأنها حق الآدمي. وقال في "النهاية": وظيف البعير: خفُّه، وهو له كالحافر للفرس.