وكذلك الإنسان يعرف أنه إذا أصيب بمرض سلس البول فإن البول يخرج منه بغير اختياره، وإذا كان سليما من هذا المرض فإن البول يخرج منه باختياره، ويعرف الفرق بين هذا وهذا، ولا أحد ينكر الفرق بينهما، وهكذا جميع ما يقع من العبد يعرف فيه الفرق بين ما يقع اختيارا وبين ما يقع اضطرارا وإجبارا، بل إن من رحمة الله عز وجل أن من الأفعال ما هو باختيار العبد ولكن لا يلحقه منه شيء كما في فعل الناسي والنائم، يقول الله تعالى في قصة أصحاب الكهف:{وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} ، وهم الذين يتقلبون، ولكن الله تعالى نسب الفعل إليه؛ لأن النائم لا اختيار له ولا يؤاخذ بفعله، فنسب فعله إلى الله عز وجل، ويقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» ، فنسب هذا الإطعام وهذا الإسقاء إلى الله عز وجل؛ لأن الفعل وقع منه بغير ذكر فكأنه صار بغير اختياره، وكلنا يعرف الفرق بين ما يجده الإنسان من ألم بغير اختياره وما يجده من خفة في نفسه أحيانا بغير اختياره، ولا يدري ما سببه، وبين أن يكون الألم هذا ناشئا من فعل هو الذي اكتسبه، أو هذا الفرح ناشئا من شيء هو الذي اكتسبه، وهذا الأمر ولله الحمد واضح لا غبار عليه.
أيها الإخوة: إننا لو قلنا بقول الفريق الأول الذين غلوا في إثبات القدر لبطلت الشريعة من أصلها؛ لأن القول بأن فعل العبد ليس له فيه اختيار يلزم منه أن لا يحمد على فعل محمود، ولا يلام على فعل مذموم؛ لأنه في الحقيقة بغير اختيار وإرادة منه، وعلى هذا فالنتيجة إذن أن الله تبارك وتعالى يكون -تعالى عن ذلك علوا كبيرا- ظالما لمن عصى إذا عذبه وعاقبه على معصيته؛ لأنه عاقبه على أمر لا اختيار له فيه ولا إرادة، وهذا بلا شك مخالف للقرآن صراحة يقول الله تبارك وتعالى:{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}