للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(حم) , وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا , فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ , وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ سَيِّئٌ. (١)


(١) قال الألباني في الضعيفة ح٥٣٣: لا أصل له مرفوعا، وإنما ورد موقوفا على ابن مسعود قال: " إن الله نظر في قلوب العباد , فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه فما رأى المسلمون .... " إلخ.
أخرجه أحمد (رقم ٣٦٠٠) والطيالسي في " مسنده " (ص ٢٣) وأبو سعيد ابن الأعرابي في " معجمه " (٨٤/ ٢) من طريق عاصم عن زِرِّ بن حُبيش عنه. وهذا إسناد حسن. وروى الحاكم منه الجملة التي أوردنا في الأعلى , وزاد في آخره: " وقد رأى الصحابة جميعا أن يستخلفوا أبا بكر - رضي الله عنه - " , وقال: " صحيح الإسناد " , ووافقه الذهبي , وقال الحافظ السخاوي: " هو موقوف حسن ".
قلت: وكذا رواه الخطيب في " الفقيه والمتفقه " (١٠٠/ ٢) من طريق المسعودي عن عاصم به , إلا أنه قال: " أبي وائل " بدل " زِرِّ بن حُبيش "
ثم أخرجه من طريق عبد الرحمن بن يزيد , قال: " قال عبد الله: فذكره ". وإسناده صحيح. وقد رُوِي مرفوعا , ولكن في إسناده كذاب كما بينتُه آنفا.
وإن من عجائب الدنيا أن يَحتج بعض الناس بهذا الحديث على أن في الدين بدعةٌ حسنة، وأن الدليل على حُسْنها اعتيادُ المسلمين لها! , ولقد صار من الأمر المعهود أن يبادِرَ هؤلاء إلى الاستدلال بهذا الحديث عندما تُثار هذه المسألة , وخفي عليهم:
أ - أن هذا الحديثَ موقوف , فلا يجوز أن يُحتجَّ به في معارضة النصوص القاطعة في أن " كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة " , كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم -.
ب - وعلى افتراض صلاحية الاحتجاج به , فإنه لا يعارض تلك النصوص لأمور:
الأول: أن المراد به: إجماعُ الصحابة واتفاقُهم على أمر، كما يدل عليه السياق
ويؤيدُه استدلالُ ابن مسعود به على إجماع الصحابة على انتخاب أبي بكر خليفة , وعليه , فاللام في " المسلمون " ليس للاستغراق كما يتوهَّمون، بل للعهد.
الثاني: سلَّمنا أنها للاستغراق , ولكن ليس المراد به قطعا كل فرد من المسلمين، ولو كان جاهلا لا يفقه من العلم شيئا، فلا بد إذن من أن يُحمل على أهل العلم منهم، وهذا مما لا مَفَرَّ لهم منه فيما أظن.
فإذا صح هذا , فمن هم أهل العلم؟ , وهل يدخل فيهم المقلدون الذين سَدُّوا على أنفسهم باب الفقه عن الله ورسوله؟، وزعموا أن باب الاجتهاد قد أُغْلِق؟ , كلا , ليس هؤلاء منهم , وإليك البيان:
قال الحافظ ابن عبد البر في " جامع العلم " (٢/ ٣٦ - ٣٧):
" حَدُّ العلم عند العلماء: ما استيقنتَه وتبيَّنْتَه، وكل من استيقن شيئا وتبيَّنَه فقد عَلِمَه، وعلى هذا من لم يستيقن الشيء، وقال به تقليدا، فلم يعلمه، والتقليد عند جماعة العلماء غير الاتباع، لأن الاتباعَ هو أن تَتَّبِعَ القائل على ما بان لك من صِحَّةِ قولِه، والتقليد: أن تقولَ بقولِه , وأنتَ لا تعرفُ وجهَ القولِ ولا معناه ".
ولهذا قال السيوطي - رحمه الله -: " إن المقلِّدَ لا يُسمى عالما " نقله السندي في حاشية ابن ماجة (١/ ٧) وَأَقَرَّه.
وعلى هذا جرى غيرُ واحد من المقلِّدة أنفسُهم , بل زاد بعضُهم في الإفصاح عن هذه الحقيقة , فسمى المقلِّد جاهلا , فقال صاحب " الهداية" تعليقا على قول الحاشية: " ولا تصلحُ ولايةُ القاضي حتى يكونَ من أهل الاجتهاد ".
وقال في (٥/ ٤٥٦) من " فتح القدير ": " الصحيحُ أن أهليةَ الاجتهادِ شرطٌ الأولوية , فأما تقليدُ الجاهل , فصحيحٌ عندنا، خلافًا للشافعي ".
قلت: فتأمل كيف سمَّى القاضي المقلِّد جاهلا، فإذا كان هذا شأنُهُم، وتلك منزلتُهُم في العلمِ باعترافهم , أفلا تتعجَّبُ معي من بعض المعاصرين من هؤلاء المقلِّدة , كيف أنهم يخرجون عن الحدود والقيود التي وضعوها بأيديهم , وارتضوها مَذهبا لأنفسهم، كيف يحاولون الانفكاك عنها؟ , مُتظاهرين بأنهم من أهل العلم , لا يَبغون بذلك إلا تأييدَ ما عليه العامة من البِدَع والضلالات، فإنهم عند ذلك يُصبحون من المجتهدين اجتهادا مطلقا، فيقولون من الأفكار والآراء والتأويلات ما لم يَقُلْهُ أحدٌ من الأئمةِ المجتهدين، يفعلون ذلك لا لمعرفة الحق , بل لموافقة العامة!.
وأما فيما يتعلق بالسنة والعمل بها في كل فرع من فروع الشريعة , فهنا يَجْمُدون على آراء الأسلاف، ولا يُجيزون لأنفسهم مخالفتَها إلى السُّنَّة، ولو كانت هذه السنة صريحةً في خِلافها، لماذا؟ , لأنهم مُقَلِّدون! , فهلا ظَلَلْتُم مقلدين أيضا في تَرك هذه البِدَع التي لا يَعرفها أسلافُكُم؟، فَوَسِعَكُم ما وَسِعَهم؟، ولم تُحسنوا ما لم يُحسنوا؟، لأن هذا اجتهادٌ منكم، وقد أغلقتم بابه على أنفسكم!.
بل هذا تشريعٌ في الدين , لم يَأذَنْ به ربُّ العالمين، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأذَنْ بِهِ اللهُ} [الشورى: ٢١].
وإلى هذا يشير الإمام الشافعي - رحمه الله - عليه بقوله المشهور: " مَنْ اسْتَحْسَنَ فقد شَرَّع ".
فليت هؤلاء المقلدة إذ تمسكوا بالتقليد واحتجوا به - وهو ليس بحجة على مخالفيهم - استمرُّوا في تقليدهم، فإنهم لو فعلوا ذلك , لكان لهم العذر , أو بعض العذر , لأنه الذي في وُسْعِهم، وأما أن يردُّوا الحقَّ الثابتَ في السُّنة بدعوى التقليد، وأن يَنصروا البدعة بالخروج عن التقليد إلى الاجتهاد المطلق، والقولِ بما لم يَقُلْهُ أحدٌ من مُقَلَّدِيهِم (بفتح اللام) فهذا سبيلٌ لا أعتقد يقول به أحدٌ من المسلمين.
وخلاصة القول: أن حديث ابن مسعود هذا الموقوف لا مُتَمَسَّكَ به للمبتدِعة، كيف وهو - رضي الله عنه - أشَدُّ الصحابة مًحاربةً للبِدَع والنَّهْيِ عن اتباعها، وأقوالُه وقصصه في ذلك معروفةٌ في " سنن الدارمي " و" حلية الأولياء " وغيرهما، وحسبنا الآن منها قوله - رضي الله عنه -: " اتَّبِعُوا ولا تَبْتَدعوا , فقد كُفِيتُم، عليكم بالأمر العَتِيق ". فعليكم أيها المسلمون بالسُّنَّة , تهتدوا وتفلحوا. أ. هـ