للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

حُكْمُ ذَرْقَ الطُّيُورِ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا

جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ ذَرْقَ الطُّيُورِ الَّتِي لا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا كَالْبَازِ وَالشَّاهِينِ وَالرَّخَمِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ نَجَسٌ، وَهَذَا قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَصَحُّ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَنَّهُ مِمَّا أَحَالَهُ طَبْعُ الْحَيَوَانِ إِلَى نَتْنٍ وَفَسَادٍ. (١)

وَفِي رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ طَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلافًا لِمُحَمَّدٍ. وَاسْتَدَلُّوا لِطَهَارَتِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَا يَنْفَصِلُ مِنَ الطُّيُورِ نَتْنٌ وَخَبَثُ رَائِحَةٍ.

وَلا يُنَحَّى شَيْءٌ مِنَ الطُّيُورِ عَنِ الْمَسَاجِدِ فَعَرَفْنَا أَنَّ خَرْءَ الْجَمِيعِ طَاهِرٌ؛ وَلأَنَّهُ لا فَرْقَ فِي الْخَرْءِ بَيْنَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَمَا لا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. (٢)

وَعَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَتِهِ - كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ - قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ مِنْهُ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ مِقْدَارَ مَا يَصْعُبُ وَيَشُقُّ الاحْتِرَازُ عَنْهُ، بِأَنْ يَكُونَ مِقْدَارَ الدِّرْهَمِ أَوْ أَقَلَّ فِي الْمِسَاحَةِ. (٣)

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى وَلِعُسْرِ الاحْتِرَازِ عَنْهُ، وَلا يُعْفَى عَنْ كَثِيرِهِ لِنُدْرَتِهِ وَعَدَمِ مَشَقَّةِ الاحْتِرَازِ عَنْهُ. (٤)

وَتُعْرَفُ الْكَثْرَةُ وَالْقِلَّةُ عِنْدَهُمْ بِالْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، فَمَا يَغْلِبُ عَادَةً التَّلَطُّخُ بِهِ وَيَعْسُرُ الاحْتِرَازُ عَنْهُ عَادَةً قَلِيلٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ. (٥)

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ إِلا إِذَا كَانَتْ دَمًا أَوْ قَيْحًا يَسِيرًا مِمَّا لا يَفْحُشُ فِي نَظَرِ الشَّخْصِ؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَةِ إِلا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَلَمْ يُوجَدْ إِلا فِي الدَّمِ وَالْقَيْحِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: (مَا كَانَ لإِحْدَانَا إِلا ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ بَلَّتْهُ بِرِيقِهَا ثُمَّ قَصَعَتْهُ بِرِيقِهَا) وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَسْجُدُ فَيُخْرِجُ يَدَيْهِ فَيَضَعُهُمَا بِالأَرْضِ، وَهُمَا يَقْطُرَانِ دَمًا مِنْ شِقَاقٍ كَانَ فِي يَدَيْهِ، وَعَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَقَيْحٍ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأ.

وَعَلَى ذَلِكَ إِنْ صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ وَإِنْ قَلَّتْ أَعَادَ. (٦)

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ الْقَيْءِ وَالْمَذْيِ وَرِيقِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَبْوَالِهَا وَأَرْوَاثِهَا لأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. (٧)

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعَلَى الرِّوَايَةِ بِنَجَاسَةِ الذَّرْقِ، اعْتَبَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ لأَنَّهَا تَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ وَالتَّحَامِي عَنْهُ مُتَعَذِّرٌ، وَاعْتَبَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنَ النَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ؛ لأَنَّ التَّخْفِيفَ لِلضَّرُورَةِ وَلا ضَرُورَةَ هُنَا؛ لِعَدَمِ مُخَالَطَةِ هَذِهِ الطُّيُورِ لِلنَّاسِ. (٨)

وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالْغَلِيظَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ الْخَفِيفَةِ وَقِلَّةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ الْغَلِيظَةِ، لا فِي كَيْفِيَّةِ التَّطْهِيرِ، لأَنَّهُ لا يَخْتَلِفُ بِالْغِلَظِ وَالْخِفَّةِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَيُعْفَى قَدْرُ مَا دُونَ رُبْعِ الثَّوْبِ أَوِ الْبَدَنِ الْمُصَابِ بِذَرْقِ الطُّيُورِ غَيْرِ مَأكُولَةِ اللَّحْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَلا يُعْفَى أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالنَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ.

وَيُعْرَفُ قَدْرُ الدِّرْهَمِ عِنْدَهُمْ فِي النَّجَاسَةِ الْمُتَجَسِّدَةِ بِالْوَزْنِ، وَفِي الْمَائِعَةِ بِالْمِسَاحَةِ بِأَنْ تَكُونَ قَدْرَ مُقَعَّرِ الْكَفِّ دَاخِلَ مَفَاصِلِ الأَصَابِعِ. (٩)

مِنَ الْخَارِج مِنْ الْحَيَوَان النَّجِس: الْعَرَق

التاج والإكليل (دار الكتب العلمية-الطبعة الأولى-١٤١٦هـ-١٩٩٤م) ج١ ص١٢٩: قال ابْنُ عَرَفَةَ: الدَّمْعُ وَالْعَرَقُ وَالْبُصَاقُ وَالْمُخَاطُ كَلَحْمِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ غَلَبَتِ النَّجَاسَةُ فِي شَيْءٍ وَالأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةُ كَثِيَابِ مُدْمِنِي الْخَمْرِ، وَالنَّجَاسَةُ كَالْمَجُوسِ وَالْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ وَالْجَزَّارِينَ. . حُكِمَ لَهُ بِالطَّهَارَةِ عَمَلا بِالأَصْلِ، وَكَذَا مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى كَعَرَقِ الدَّوَابِّ وَلُعَابِهَا. . وَنَحْوِ ذَلِكَ. (١٠)

المجموع (مكتبة الإرشاد-السعودية- ومكتبة المطيعي-د. ط-د. ت) ج١ ص٢٥٠: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي التَّبْصِرَةِ: لَوْ أَصَابَ ثَوْبَهُ أَوْ غَيْرَهُ شَيْءٌ مِنْ لُعَابِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَعَرَقِهَا جَازَتْ صَلاتُهُ فِيهِ قَالَ لأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ لا تَزَالُ تَتَمَرَّغُ فِي الأَمْكِنَةِ النَّجِسَةِ وَتَحُكُّ بِأَفْوَاهِهَا قَوَائِمُهَا الَّتِي لا تَخْلُو مِنْ النَّجَاسَةِ فَإِنَّا لا نَتَيَقَّنُ نَجَاسَةَ عَرَقِهَا وَلُعَابِهَا لأَنَّهَا تَخُوضُ الْمَاءَ الْكَثِيرَ وَتَكْرَعُ فِيهِ كَثِيرًا فَغَلَّبْنَا أَصْلَ الطَّهَارَةِ فِي لُعَابِهَا وَعَرَقِهَا قَالَ: وَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُمْ يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ فِي الْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَسَائِرِ الأَسْفَارِ وَلا يَكَادُ يَنْفَكُّ الرَّاكِبُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَنْ أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنْ عَرَقِهَا أَوْ لُعَابِهَا وَكَانُوا يُصَلُّونَ فِي ثِيَابِهِمْ الَّتِي رَكِبُوا فِيهَا، وَلَمْ يُعِدُّوا ثَوْبَيْنِ ثَوْبًا لِلرُّكُوبِ وَثَوْبًا لِلصَّلاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

المغني (مكتبة القاهرة-د. ط -١٣٨٨هـ ١٩٦٨م) ج١ ص٣٩: كُلُّ حَيَوَانٍ حُكْمُ جِلْدِهِ وَشَعْرِهِ وَعَرَقِهِ وَدَمْعِهِ وَلُعَابِهِ حُكْمُ سُؤْرِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ؛ لأَنَّ السُّؤْرَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ النَّجَاسَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْجُسُ لِمُلاقَاتِهِ لُعَابَ الْحَيَوَانِ وَجِسْمَهُ، فَلَوْ كَانَ طَاهِرًا كَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا، وَإِذَا كَانَ نَجِسًا كَانَ سُؤْرُهُ نَجِسًا.

المحلى (دار الكتب العلمية-بيروت-د. ط-د. ت) ج١ ص١٣٧ - ١٣٨: وَلُعَابُ كُلِّ مَا لا يَحِلُّ أَكْلُ لَحْمِهِ مِنْ طَائِرٍ أَوْ غَيْرِهِ، مِنْ خِنْزِيرٍ أَوْ كَلْبٍ أَوْ هِرٍّ أَوْ سَبُعٍ أَوْ فَأرٍ، حَاشَا الضَّبُعَ فَقَطْ، وَعَرَقُ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَدَمْعُهُ - حَرَامٌ وَاجِبٌ اجْتِنَابُهُ.


(١) ابن عابدين ١/ ٢١٤، البناية على الهداية ١/ ٧٤٧، والاختيار ١/ ٣٤، ومغني المحتاج ١/ ٧٩، وقليوبي ١/ ١٨٤، والمغني ٢/ ٨٦، وكشاف القناع ١/ ١٩٣، وجواهر الإكليل ١/ ٩، ٢١٧، وحاشية الدسوقي ١/ ١٥١.
(٢) البناية على الهداية ١/ ٧٤٧.
(٣) جواهر الإكليل ١/ ١١، وحاشية الدسوقي ١/ ٧١، ٧٢.
(٤) حاشية القليوبي ١/ ١٨٤، ونهاية المحتاج ٢/ ٢٦، ومغني المحتاج ١/ ٧٩، ٩٣.
(٥) حاشية القليوبي ١/ ١٨٤، ونهاية المحتاج ٢/ ٢٦، ومغني المحتاج ١/ ٧٩، ٩٣.
(٦) المغني ٢/ ٧٧، ٧٨، وكشاف القناع ١/ ١٩٣، ١٩٤.
(٧) كشاف القناع ١/ ١٩٣، ١٩٤، والمغني لابن قدامة ٢/ ٨٢.
(٨) البناية على الهداية ١/ ٤٤٦، ٤٤٧.
(٩) البناية على الهداية ١/ ٤٤٧، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص ٨٣ ـ ٨٤، وحاشية ابن عابدين ١/ ١٤٧.
(١٠) مغني المحتاج ١/ ٢٩.