للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

اَلْأُمُورُ الْمُحَرَّمُ وَالْمَكْرُوهُ فِعْلُها فِي الْمَسَاجِد

بِنَاء الْمَسَاجِد عَلَى الْقُبُور

(خ م) , عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: (" لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - (١) طَفِقَ (٢) يَطْرَحُ خَمِيصَةً (٣) لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: (لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ , قَالَتْ: يُحَذِّرُهُمْ مِمَّا صَنَعُوا) (٤) (وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزُوا قَبْرَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا (٥) "

قال الألباني في كتاب " تحذير الساجد " ص٥٩ وما بعدها: فإن قال قائل: إن قبرَ النبي - صلى اللهُ عليه وسلَّم - في مسجده كما هو مشاهد اليوم , ولو كان ذلك حراما لم يدفن فيه , والجواب: أن هذا - وإن كان هو المشاهد اليوم - فإنه لم يكن كذلك في عهد الصحابة - رضي الله عنهم - , فإنهم لما مات النبي - صلى اللهُ عليه وسلَّم - دفنوه في حجرته التي كانت بجانب مسجده , وكان يفصل بينهما جدار فيه باب كان النبي - صلى اللهُ عليه وسلَّم - يخرج منه إلى المسجد , وهذا أمر معروف مقطوع به عند العلماء , ولا خلاف في ذلك بينهم والصحابة - رضي الله عنهم - حينما دفنوه - صلى اللهُ عليه وسلَّم - في الحجرة , وإنما فعلوا ذلك كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجدا كما سبق بيانه في حديث عائشة وغيره , ولكن وقع بعدهم ما لم يكن في حسبانهم , ذلك أن الوليد بن عبد الملك أمر سنة ثمان وثمانين بهدم المسجد النبوي وإضافة حُجَرِ أزواج رسول الله - صلى اللهُ عليه وسلَّم - إليه , فأدخل فيه الحجرة النبوية - حجرة عائشة - فصار القبر بذلك في المسجد , ولم يكن في المدينة أحد من الصحابة حينذاك , خلافا لم توهم بعضهم , قال العلامة الحافظ محمد بن عبد الهادي في " الصارم المُنْكي " (ص ١٣٦): " وإنما أُدْخِلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبدالملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة , وكان آخرهم موتا جابر بن عبد الله , وتوفي في خلافة عبد الملك , فإنه توفي سنة ثمان وسبعين والوليد تولى سنة ست وثمانين , وتوفي سنة ست وتسعين , فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك , وقد ذكر أبو زيد عمر بن شَبَّة النميري في " كتاب أخبار المدينة " مدينة الرسول - صلى اللهُ عليه وسلَّم - عن أشياخه عمن حدثوا عنه أن ابن عمر بن عبد العزيز لما كان نائبا للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة بالساج وماء الذهب , وهدم حجرات أزواج النبي - صلى اللهُ عليه وسلَّم - وأدخل القبر فيه " , وخلاصة القول أنه ليس لدينا نصٌّ تقوم به الحجة على أن أحدا من الصحابة كان في عهد عملية التغيير هذه , فمن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل , فما جاء في شرح مسلم " (٥/ ١٣١٤) أن ذلك كان في عهد الصحابة لعل مستنده تلك الرواية المعضلة أو المرسلة , وبمثلها لا تقوم حجة , على أنها أخص من الدعوى , فإنها لو صحت إنما تُثْبِتُ وجود واحد من الصحابة حينذاك لا (الصحابة) , وأما قولُ بعضِ من كَتَبَ في هذه المسألة بغير علم: فمسجد النبي - صلى اللهُ عليه وسلَّم - منذ وسعه عثمان - رضي الله عنه - وأدخل في المسجد ما لم يكن منه , فصارت القبور الثلاثة محاطة بالمسجد , ولم ينكر أحد من السلف ذلك , فمن جهالاتهم التي لا حدود لها , ولا أريد أن أقول: أنها من افتراءاتهم , فإن أحدا من العلماء لم يقل إن إدخال القبور الثلاثة كان في عهد عثمان - رضي الله عنه - , بل اتفقوا على أن ذلك كان في عهد الوليد بن عبد الملك كما سبق , أي بعد عثمان بنحو نصف قرن , ولكنهم يَهْرِفُون بما لا يعرفون , ذلك لأن عثمان - رضي الله عنه - فعل خلاف ما نسبوه إليه , فإنه لما وسع المسجد النبوي الشريف احترز من الوقوع في مخالفة الأحاديث المشار إليها , فلم يُوَسِّعِ المسجدَ من جهة الحجرات , ولم يدخلها فيه , وهذا عين ما صنعه سلفه عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - جميعا , بل أشار هذا إلى أن التوسيع من الجهة المشار إليها فيه المحذور المذكور في الأحاديث المتقدمة كما سيأتي ذلك عنه قريبا , وأما قولهم: " ولم ينكر أحد من السلف ذلك " فنقول: وما أدراكم بذلك؟ , فإن من أصعب الأشياء على العقلاء إثبات نفي شيء يمكن أن يقع ولم يُعلم , كما هو معروف عند العلماء , لأن ذلك يستلزم الإستقراء التام والإحاطة بكل ما جرى وما قيل حول الحادثة التي يتعلق بها الأمر المراد نفيه عنها , وأَنَّى لمثل هذا البعض المشار إليه أن يفعلوا ذلك لو استطاعوا ولو أنهم راجعوا بعض الكتب لهذه المسألة لما وقعوا في تلك الجهالة الفاضحة , ولَوَجَدوا ما يحملهم على أن لا يُنكروا ما لم يحيطوا بعلمه , فقد قال الحافظ ابن كثير في تاريخه (ج٩ ص٧٥) بعد أن ساق قصة إدخال القبر النبوي في المسجد: ويُحكى أن سعيد بن المسيب أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد , كأنه خشي أن يُتخذ القبر مسجدا ,

وأنا لا يهمني كثيرا صحة هذه الرواية أو عدم صحتها , لأننا لا نبني عليها حكما شرعيا , لكن الظنَّ بسعيد بن المسيب وغيره من العلماء الذين أدركوا ذلك التغيير أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار , لمنافاته تلك الأحاديث المتقدمة منافاةٍ بينة , وخاصة منها رواية عائشة التي تقول: " فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا " , فما خشي منه الصحابة - رضي الله عنهم - قد وقع مع الأسف الشديد بإدخال القبر في المسجد , إذ لا فارق بين أن يكونوا دفنوه - رضي الله عنهم - حين مات في المسجد - وحاشاهم عن ذلك - وبين ما فعله الذين بعدهم من إدخال قبره في المسجد بتوسيعه , فالمحذور حاصل على كل حال كما تقدم عن الحافظ العراقي وشيخ الإسلام ابن تيمية , ويؤيد هذا الظن أن سعيد بن المسيب أحد رواة الحديث الثاني كما سبق , فهل اللائق بمن يُعتَرَف بعلمه وفضله وجُرأته في الحق أن يُظنَّ به أنه أنكر على من خالف الحديث الذي هو رواه , أم أن يُنْسَبَ إليه عدم إنكاره ذلك , كما زعم هؤلاء المشار إليهم حين قالوا: " لم ينكر أحد من السلف ذلك " والحقيقة أن قولَهم هذا يتضمن طعنا ظاهرا لو كانوا يعلمون في جميع السلف , لأن إدخال القبر إلى المسجد منكرٌ ظاهر عند كل من علم بتلك الأحاديث المتقدمة وبمعانيها , ومن المحال أن نَنْسب إلى جميع السلف جهلهم بذلك , فهم أو على الأقل بعضهم يعلم ذلك يقينا , وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من القول بأنهم أنكروا ذلك ولو لم نقف فيه على نص , لأن التاريخ لم يحفظ لنا كل ما وقع , فكيف يقال: إنهم لم ينكروا ذلك؟ , اللهم غُفْرًا , ومن جهالتهم قولهم عطفا على قولهم السابق: وكذا مسجد بني أمية , أدخل المسلمون في دمشق من الصحابة وغيرهم والقبر ضمن المسجد لمن ينكر أحد ذلك " , إن منطق هؤلاء عجيب غريب , إنهم ليتوهمون أن كل ما يشاهدونه الآن في مسجد بني أمية كان موجودا في عهد مُنْشِئِه الأول الوليد بن عبد الملك , فهل يقول بهذا عاقل؟ , كلا , لا يقول ذلك غير هؤلاء , ونحن نقطع ببطلان قولهم , وأن أحدا من الصحابة والتابعين لم ير قبرا ظاهرا في مسجد بني أمية أو غيره , بل غاية ما جاء فيه بعض الروايات عن زيد بن أرقم بن واقد أنهم في أثناء العمليات وجدوا مغارة فيها صندوق فيه سَفَطٌ (وعاء كامل) وفي السفط رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام مكتوب عليه: هذا رأس يحيى عليه السلام , فأمر به الوليد فرد إلى المكان , وقال: اجعلوا العمود الذي فوقه مغيرا من الأعمدة , فجعل عليه عمود مسبك بسفط الرأس , رواه أبو الحسن الربعي في فضائل الشام ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (ج ٢ ق ٩/ ١٠) وإسناده ضعيف جدا , فيه إبراهيم بن هشام الغساني كَذَّبه أبو حاتم وأبو زرعة , وقال الذهبي " متروك " , ومع هذا فإننا نقطع أنه لم يكن في المسجد صورة قبر حتى أواخر القرن الثاني , لِما أخرجه الربعي وابن عساكر عن الوليد بن مسلم أنه سُئل: أين بلغك رأس يحى بن زكريا؟ , قال: بلغني أنه ثَمَّ وأشار بيده إلى العمود المُسَفَطِ الرابع من الركن الشرقي , فهذا يدل على أنه لم يكن هناك قبر في عهد الوليد بن مسلم وقد توفي سنة أربع وتسعين ومائة , وأما كون ذلك الرأس هو رأس يحى عليه السلام فلا يمكن إثباته , ولذلك اختلف المؤرخون اختلافا كثيرا , وجمهورهم على أن رأس يحيى عليه السلام مدفون في مسجد حلب , وليس في مسجد دمشق كما حققه شيخنا في الإجازة العلامة محمد راغب الطباخ في بحث له نشره في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق (ج ١ ص ٤١ ١٤٨٢) تحت عنوان " رأس يحيى ورأس زكريا " فليراجعه من شاء , ونحن لا يهمنا من الوجهة الشرعية ثبوت هذا أو ذاك , سواء عندنا أكان الرأس الكريم في هذا المسجد أو ذاك , بل لو تَيَقَّنَّا عدم وجوده في كل من المسجدين , فوجود صورة القبر فيهما كاف في المخالفة , لأن أحكام الشريعة المطهرة إنما تُبنى على الظاهر لا الباطن كما هو معروف وسيأتي ما يشهد لهذا من كلام بعض العلماء , وأشدُّ ما تكون المخالفة إذا كان القبر في قبلة المسجد , كما هو الحال في مسجد حلب ولا مُنْكِر لذلك من علمائها , واعلم أنه لا يجدي في رفع المخالفة أن القبر في المسجد ضمن مقصورة كما زعم مؤلفوا الرسالة , لأنه على كل حال ظاهر ومقصود من العامة وأشباههم من الخاصة بما لا يُقصَد به إلا الله تعالى , من التوجه إليه والاستغاثة به من دون الله تبارك وتعالى , فظهور القبر هو سبب المحذور كما سيأتي عن النووي رحمه الله , وخلاصة الكلام أن قول من أشرنا إليهم أن قبر يحيى عليه السلام كان ضمن المسجد الأموي منذ دخل الصحابة وغيرهم دمشق ولم ينكر ذلك أحد منهم إن هو إلا محض اختلاق , يتبين لنا مما أوردناه أن القبر الشريف إنما أُدخل إلى المسجد النبوي حين لم يكن في المدينة أحد من الصحابة , وأن ذلك كان على خلاف غرضهم الذي رموا إليه حين دفنوه في حجرته - صلى اللهُ عليه وسلَّم - , فلا يجوز لمسلم بعد أن عرف هذه الحقيقة أن يحتج بما وقع بعد الصحابة , لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة وما فهم الصحابة والأئمة منها كما سبق بيانه , وهو مخالف أيضا لصنيع عمر وعثمان حين وَسَّعا المسجد ولم يدخلا القبر فيه , ولهذا نقطع بخطأ ما فعله الوليد بن عبد الملك عفا الله عنه , ولئن كان مضطرا إلى توسيع المسجد فإنه كان باستطاعته أن يوسعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة الشريفة وقد أشار عمر بن الخطاب إلى هذا النوع من الخطأ حين قام هو - رضي الله عنه - بتوسيع المسجد من الجهات الأخرى ولم يتعرض للحجرة , بل قال " إنه لا سبيل إليها " انظر " طبقات ابن سعد " (٤/ ٢١) , و" تاريخ دمشق " لا بن عساكر (٨/ ٤٧٨ / ٢) , وقال السيوطي في " الجامع الكبير " (٣/ ٢٧٢ / ٢): وسنده صحيح إلا أن سالما أبا النضر لم يدرك عمر , فأشار - رضي الله عنه - إلى المحذور الذي يُترقب من جَرَّاء هدمها وضمها إلى المسجد , ومع هذه المخالفة الصريحة للأحاديث المتقدمة وسنة الخلفاء الراشدين , فإن المخالفين لما أدخلوا القبر النبوي في المسجد الشريف احتاطوا للأمر شيئا ما , فحاولوا تقليل المخالفة ما أمكنهم ,

قال النووي في " شرح مسلم " (٥/ ١٤): ولما احتاجت الصحابة (٦) والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله - صلى اللهُ عليه وسلَّم - حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه , ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مَدْفَن رسول الله - صلى اللهُ عليه وسلَّم - وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله , لئلا يظهر في المسجد (٧) فيصلي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور , ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشَّمَالِيَّيْن وحرفوهما حتى التقيا , حتى لا يتمكن أحدٌ من استقبال القبر , ونقل الحافظ ابن رجب في " الفتح " نحوَه عن القرطبي كما في " الكوكب " (٦٥/ ٩١ / ١) وذكر ابن تيمية في " الجواب الباهر " (ق ٩/ ٢): أن الحجرة لما أُدْخلت إلى المسجد سُد بابها وبني عليها حائط آخر صيانة له - صلى اللهُ عليه وسلَّم - أن يتخذ بيته عيدا وقبرُه وَثَنَا، ومن ذلك تعلم أن قول بعضهم: " إن الصلاة في المسجد الذي به قبر كمسجد النبي - صلى اللهُ عليه وسلَّم - ومسجد بني أمية لا يقال إنها صلاة في الجبانة فالقبر ضمن مقصورة مستقل بنفسه عن المسجد فما المانع من الصلاة فيه " فهذا قولٌ لم يصدر عن علم وفقه , لأن المانع بالنسبة للمسجد الأموي لا يزال قائما , وهو ظهور القبر من وراء المقصورة , والدليل على ذلك قصد الناس للقبر والدعاء عنده وبه , والاستغاثة به من دون الله , وغير ذلك مما لا يرضاه الله , والشارع الحكيم إنما نهى عن بناء المساجد على القبور سدا للذريعة ومَنْعًا لمثل هذه الأمور التي تقع عند هذا القبر كما سيأتي بيانه , فما قيمة هذه المقصورة على هذا الشكل المزخرف التي هي نوعٌ آخر من المنكر الذي يحمل الناس على معصية الله ورسوله - صلى اللهُ عليه وسلَّم - وتعظيم صاحب القبر بما لا يجوز شرعا مما هو مشاهد معروف وسبقت الإشارة إلى بعضه , ثم ألا يكفي في إثبات المانع أن الناس يستقبلون القبر عند الصلاة قَصْدًا وبدون قصد؟ , ولعل أولئك المشار إليهم وأمثالهم يقولون: لا مانع أيضا من هذا الإستقبال , لوجود فاصل بين المصلين والقبر , ألا وهو نوافذ القبر وشبكته النحاسية فنقول: لو كان هذا المانع كافيا في المنع لما أحاطوا القبر النبوي الشريف بجدار مرتفع مستدير ولم يكتفوا بذلك بل بنو جدارين يمنعون بهما من استقبال القبر , ولو كان وراء الجدار المستدير وقد صح عن ابن جريج أنه قال: قلت لعطاء بن أبي رباح: أتكره أن تصلي في وسط القبور أو في مسجد إلى قبر؟ , قال: نعم , كان يُنْهى عن ذلك , أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " (١/ ٤٠٤) , فإذا كان هذا التابعي الجليل لم يعتبر جدار المسجد فاصلا بين المصلى وبين القبر وهو خارج المسجد , فهل يُعتبر النوافذ والشبكة فاصلا والقبر في المسجد؟ , فهل في هذا ما يُقنع أولئك الكاتبين بجهلهم وخطئهم وهجومهم على القول بما لا علم لهم به؟ , لعل وعسى , وأما المسجد النبوي الكريم فلا كراهة في الصلاة فيه خلافا لما افْتَرَوْهُ علينا.

قلت: ومما يُؤسَفُ له أن هذا البناء قد بُني عليه منذ قرون , ووُضِعَت تلك القبة الخضراء العالية , وأحيط القبر الشريف بالنوافذ النحاسية والزخارف والسجف وغير ذلك مما لا يرضاه صاحب القبر نفسه - صلى اللهُ عليه وسلَّم - , بل قد رأيت حين زرت المسجد النبوي الكريم وتشرفت بالسلام على رسول الله - صلى اللهُ عليه وسلَّم - سنة ١٣٦٨ هـ رأيت في أسفل حائط القبر الشمالي مِحرابا صغيرا ووراءه سُدَّةً مرتفعة عن أرض المسجد قليلا , إشارة إلى أن هذا المكان خاص للصلاة وراء القبر , فعجبت حينئذ كيف ظَلَّت هذه الظاهرة الوثنية قائمة في عهد دولة التوحيد , أقول هذا مع الاعتراف بأنني لم أر أحدا يأتي ذلك المكان للصلاة فيه , لشدة المراقبة من قبل الحرس المُوَكَّلِين على منع الناس من يأتوا بما يخالف الشرع عند القبر الشريف , فهذا مما تُشكر عليه الدولة السعودية , ولكن هذا لا يكفي ولا يشفي , وقد كنت قلت منذ ثلاث سنوات في كتابي: " أحكام الجنائز وبدعها ص٢٠٨: فالواجب الرجوع بالمسجد النبوي إلى عهده السابق , وذلك بالفصل بينه وبين القبر النبوي بحائط يمتد من الشمال إلى الجنوب بحيث أن الداخل إلى المسجد لا يرى فيه أي مخالفة لا تُرضي مؤسِّسَه - صلى اللهُ عليه وسلَّم - أعتقد أن هذا من الواجب على الدولة السعودية إذا كانت تريد أن تكون حامية التوحيد حقا , وقد سمعنا أنها أمرت بتوسيع المسجد مجددا , فلعلها تتبنى اقتراحنا هذا وتجعل الزيادة من الجهة الغربية وغيرها , وتسد بذلك النقص الذي سيصيبه سعة المسجد إذا نفذ الاقتراح , أرجو أن يحقق الله ذلك على يدها ومن أولى بذلك منها؟ , ثم قال الألباني: ولكن المسجد وُسِّع منذ سنتين تقريبا دون إرجاعه إلى ما كان عليه في عهد الصحابة والله المستعان , وأما الشبهة الثالثة , وهي أن النبي - صلى اللهُ عليه وسلَّم - صلى في مسجد الخَيْف , وقد ورد في الحديث أن فيه قَبْرَ سبعين نبيا , فالجواب: أننا لا نشك في صلاته - صلى اللهُ عليه وسلَّم - في هذا المسجد , ولكننا نقول: إن ما ذُكِر في الشبهة من أنه دُفِنَ فيه سبعون نبيا لا حجة فيه من وجهين: الأول: أننا لا نُسَلِّم بصحة الحديث المشار إليه , لأنه لم يروه أحد ممن عني بتدوين الحديث الصحيح ولا صححه أحد ممن يوثق بتصحيحه من الأئمة المتقدمين , ولا النقد الحديثي يساعد على تصحيحه , ففيه عبدان بن أحمد الأهوازي كما ذكر الطبراني في " المعجم الصغير " (ص ١٣٦) ولم أجد له ترجمة , وفي إسناده من يروي الغرائب , مثل عيسى بن شاذان , قال فيه ابن حبان في " الثقات ": " يغرب " , وأنا أخشى أن يكون الحديث تحرَّف على أحدهما , فقال: " قبر " بدل " صلى " , لأن هذا اللفظ الثاني هو المشهور في الحديث , فقد أخرج الطبراني في " الكبير (٣/ ١٥٥١) بإسنادٍ رجاله ثقات عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا: صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا. . .) الحديث , وقال المنذري (٢/ ١١٦): رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن , ولا شك في حُسْن الحديث عندي , والعبرة في هذه المسألة بالقبور الظاهرة , وأن ما في بطن الأرض من القبور فلا يرتبط به حكم شرعي من حيث الظاهر بل الشريعة تُنَزَّهُ عن مثل هذا الحكم , لأننا نعلم بالضرورة والمشاهدة أن الأرض كلها مقبرة الأحياء كما قال تعالى: {ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا} , قال الشعبي: بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم. أ. هـ


(١) أَيْ: مرض الموت.
(٢) أَيْ: جَعَلَ.
(٣) الْخَمِيصَة: كِسَاء لَهُ أَعْلَام (خُطوط).
(٤) (خ) ٤٢٥ , (م) ٥٣١
(٥) (خ) ١٢٦٥ , (م) ٥٢٩
(٦) عزو هذا إلى الصحابة لا يثبت كما تقدم (ص ٥٨ , ٥٩) فَتَنَبَّه.
(٧) في هذا دليل واضح على أن ظهور القبر في المسجد ولو من وراء النوافذ والحديد والأبواب لا يُزيل المحذور , كما هو الواقع في قبر يحيى عليه السلام في مسجد بني أمية في دمشق وحلب , ولهذا نص أحمدُ على أن الصلاة لا تجوز في المسجد الذي قبلته إلى قبر حتى يكون بين حائط المسجد وبين المقبرة حائل آخر , فكيف إذا كان القبر في قبلة المسجد من الداخل ودون جدار حائل؟. أ. هـ