للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

المَرَضُ بِقَدَر , وَالصِّحَّةُ بِقَدَر

(خ م ت) , عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (" لَا عَدْوَى (١) وَلَا طِيَرَةَ (٢) وَلَا صَفَرَ (٣) وَلَا هَامَةَ (٤) ") (٥) (فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ , فَمَا بَالُ الْإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ (٦) كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ, فَيَأتِي الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا فَيُجْرِبُهَا) (٧) (كُلَّهَا؟) (٨) (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ (٩)؟) (١٠) (خَلَقَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ وَكَتَبَ حَيَاتَهَا وَمَوْتَهَا , وَمَصَائِبَهَا وَرِزْقَهَا ") (١١)


(١) الْعَدْوَى هُنَا مُجَاوَزَةُ الْعِلَّةِ مِنْ صَاحِبِهَا إِلَى غَيْرِهِ.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّأوِيلِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيُ ذَلِكَ وَإِبْطَالُهُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ , وَالْقَرَائِنُ الْمَسُوقَةُ عَلَى الْعَدْوَى, وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِبْطَالَهَا، فَقَدْ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ " , وَقَالَ: " لَا يُورَدَنَّ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحٍّ "، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ نَفْيَ مَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ أَصْحَابُ الطَّبِيعَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْعِلَلَ الْمُعْدِيَةَ مُؤَثِّرَةً لَا مَحَالَةَ، فَأَعْلَمَهُمْ بِقَوْلِهِ هَذَا أَنْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا يُتَوَهَّمُونَ، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَشِيئَةِ , إِنْ شَاءَ اللهُ كَانَ , وَإِنْ لَمْ يَشَأ لَمْ يَكُنْ. تحفة الأحوذي - (ج ٤ / ص ٢٨٨)
(٢) الطِّيَرَة وَالشُّؤْم بِمَعْنَى وَاحِدٍ. فتح الباري (ج ٨ / ص ٤٨٤)
(٣) (الصَّفَرَ) قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ: هُوَ دَاءٌ يَأخُذُ الْبَطْنَ , قَالَ الْحَافِظُ: كَذَا جَزَمَ بِتَفْسِيرِ الصَّفَرِ , وَقال أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ حَيَّةٌ تَكُونُ فِي الْبَطْنِ , تُصِيبُ الْمَاشِيَةَ وَالنَّاسَ , وَهِيَ أَعْدَى مِنْ الْجَرَبِ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِنَفْيِ الصَّفَرِ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ فِيهِ مِنْ الْعَدْوَى , وَرَجَحَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ هَذَا الْقَوْلُ لِكَوْنِهِ قُرِنَ فِي الْحَدِيثِ بِالْعَدْوَى، فَرَدَّ ذَلِكَ الشَّارِعُ بِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا فَرَغَ الْأَجَلُ.
وَقِيلَ فِي الصَّفَرِ قَوْلٌ آخَرُ , وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شَهْرُ صَفَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُحَرِّمُ صَفَرَ , وَتَسْتَحِلُّ الْمُحَرَّمَ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ بِرَدِّ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " لَا صَفَرَ ". تحفة الأحوذي - (ج ٥ / ص ٤٣٢)
(٤) قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ: الْهَامَةُ: الرَّأسُ, وَاسْمُ طَائِرٍ , وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِهَا , وَهِيَ مِنْ طَيْرِ اللَّيْلِ , وَقِيلَ: هِيَ الْبُومَةُ.
وَقِيلَ: كَانَتْ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ رُوحَ الْقَتِيلِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ بِثَأرِهِ تَصِيرُ هَامَةً, فَتَقُولُ: اِسْقُونِي , فَإِذَا أُدْرِكَ بِثَأرِهِ طَارَتْ.
وَقِيلَ: كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ عِظَامَ الْمَيِّتِ - وَقِيلَ: رُوحُهُ - تَصِيرُ هَامَةً , فَتَطِيرُ , وَيُسَمُّونَهُ الصَّدَى، فَنَفَاهُ الْإِسْلَامُ , وَنَهَاهُمْ عَنْهُ. تحفة الأحوذي (٥/ ٤٣١)
(٥) (خ) ٥٤٢٥ , (م) ٢٢٢٠
(٦) المقصود بالرَّمْل هنا: العدْوُ، من رَمَل يَرْمِل.
(٧) (خ) ٥٤٣٧
(٨) (م) ٢٢٢٠
(٩) أَيْ: إِنْ كَانَ جَرَبُهَا حَصَلَ بِالْإِعْدَاءِ , فَمَنْ أَجْرَبَ الْبَعِيرَ الْأَوَّلَ؟ , أَيْ: مَنْ أَوْصَلَ الْجَرَبَ إِلَيْهِ لِيُبْنَى بِنَاءُ الْإِعْدَاءِ عَلَيْهِ.
وَبَيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْلِهِ: " فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ "، وَبِقَوْلِهِ: " لَا يُورَدَنَّ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحٍّ " أَنَّ مُدَانَاةَ ذَلِكَ سَبَبٌ الْعِلَّةِ , فَلْيَتَّقِهِ اِتِّقَاءَ الْجِدَارِ الْمَائِلِ , وَالسَّفِينَةِ الْمَعْيُوبَةِ.
وَقَدْ رَدَّت الْفِرْقَةُ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ فِي اِسْتِدْلَالِهِمْ بِالْحَدِيثَيْنِ أَنَّ النَّهْيَ فِيهِمَا إِنَّمَا جَاءَ شَفَقًا عَلَى مُبَاشَرَةِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ , فَتُصِيبُهُ عِلَّةٌ فِي نَفْسِهِ , أَوْ عَاهَةٌ فِي إِبِلِهِ , فَيَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَدْوَى حَقٌّ.
قُلْت: وَقَدْ اِخْتَارَهُ الْحَافِظَ اِبْنَ حَجَرٍ فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ، وَمُجْمَلُهُ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ اِجْتِنَابُهُ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمَجْذُومِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُبَايَعَةِ , مَعَ أَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ بَعِيدٌ مِنْ أَنْ يُورَدَ لِحَسْمِ مَادَّةِ ظَنِّ الْعَدْوَى , كَلَامًا يَكُونُ مَادَّةً لِظَنِّهَا أَيْضًا، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالتَّجَنُّبِ أَظْهَرُ مِنْ فَتْحِ مَادَّةِ ظَنِّ أَنَّ الْعَدْوَى لَهَا تَأثِيرٌ بِالطَّبْعِ.
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ , فَلَا دَلَالَةَ أَصْلًا عَلَى نَفْيِ الْعَدْوَى مُبَيَّنًا وَاللهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّيْخُ التُّورْبَشْتِيُّ: وَأَرَى الْقَوْلَ الثَّانِيَ أَوْلَى التَّأوِيلَيْنِ , لِمَا فِيهِ مِنْ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، ثُمَّ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ الْأُصُولِ الطِّبِّيَّةِ وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَعْطِيلِهَا , بَلْ وَرَدَ بِإِثْبَاتِهَا , وَالْعِبْرَةُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. تحفة الأحوذي (٤/ ٢٨٨)
(١٠) (خ) ٥٣٨٧
(١١) (ت) ٢١٤٣ , (حم) ٨٣٢٥