للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

شَعْر الْمَيْتَة وَصُوفهَا

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الانْتِفَاعِ بِصُوفِ وَشَعْرِ وَوَبَرِ مَيْتَةِ الْحَيَوَانِ الْمَأكُولِ اللَّحْمِ عَلَى قَوْلَيْنِ: (١)

الأَوَّلُ: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ صُوفَ الْمَيْتَةِ وَشَعْرَهَا وَوَبَرَهَا طَاهِرٌ يَجُوزُ الانْتِفَاعُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ ألمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}، فَعَمَّ اللَّهُ الْجَمِيعَ بِالإِبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُذَكَّى مِنْهَا وَبَيْنَ الْمَيْتَةِ، وَلأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ هَذِهِ الأَشْيَاءَ فِي مَعْرِضِ الْمِنَّةِ، وَالْمِنَّةُ لا تَقَعُ بِالنَّجِسِ الَّذِي لا يَحِلُّ الانْتِفَاعُ بِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَيْتَةِ: " إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا ".

قَالَ الْجَصَّاُصُ: فَأَبَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الشَّعْرُ وَالصُّوفُ وَالْعَظْمُ وَنَحْوُهَا مِنَ الْمَأكُولِ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا التَّحْرِيمُ. (٢)

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ هَذِهِ الشُّعُورَ وَالأَصْوَافَ وَالأَوْبَارَ أَجْسَامٌ مُنْتَفَعٌ بِهَا، لِعَدَمِ تَعَرُّضِهَا لِلتَّعَفُّنِ وَالْفَسَادِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى بِطَهَارَتِهَا كَالْجُلُودِ الْمَدْبُوغَةِ، وَلأَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَاتِ لَيْسَتْ لأَعْيَانِهَا، بَلْ لِمَا فِيهَا مِنَ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي هَذِهِ الأَشْيَاءِ.

قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَحُجَّتُنَا أَنَّهَا طَاهِرَةٌ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَتَكُونُ طَاهِرَةً بَعْدَهُ، عَمَلا بِالاسْتِصْحَابِ (٣) وَلأَنَّ الْمَوْتَ لا يَلْحَقُهَا، إِذِ الْمَوْتُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى يَحِلُّ بَعْدَ عَدَمِ الْحَيَاةِ، وَلَمْ تَكُنِ الْحَيَاةُ فِي الصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَالشَّعْرِ، فَيَخْلُفَهَا الْمَوْتُ فِيهَا. (٤)

الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ صُوفَ الْمَيْتَةِ وَشَعْرَهَا وَوَبَرَهَا نَجِسٌ لا يَحِلُّ الانْتِفَاعُ بِهِ، وَذَلِكَ لأَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ الْمَيْتَةِ، وقَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} عَامٌّ فِي تَحْرِيمِ سَائِرِ أَجْزَائِهَا.

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَعْرَ الْمَيْتَةِ غَيْرَ الْخِنْزِيرِ وَعَظْمَهَا وَعَصَبَهَا - عَلَى الْمَشْهُورِ - وَحَافِرَهَا وَقَرْنَهَا الْخَالِيَةَ عَنِ الدُّسُومَةِ، وَكَذَا كُلُّ مَا لا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ وَهُوَ مَا لا يَتَأَلَّمُ الْحَيَوَانُ بِقَطْعِهِ كَالرِّيشِ وَالْمِنْقَارِ وَالظِّلْفِ طَاهِرٌ.

وَاخْتُلِفَ فِي أُذُنَيْهِ فَفِي الْبَدَائِعِ نَجِسَةٌ، وَفِي الْخَانِيَةِ: لا، وَفِي الأَشْبَاهِ: الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْحَيِّ كَمَيْتَتِهِ إِلا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ فَطَاهِرٌ وَإِنْ كَثُرَ. (٥)

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: أَجْزَاءُ الْمَيْتَةِ نَجِسَةٌ إِلا الشَّعْرَ وَشِبْهَهَا مِنَ الرِّيشِ.

وَأَمَّا أَجْزَاءُ الْحَيَوَانِ فَإِنْ قُطِعَتْ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَهِيَ نَجِسَةٌ إِجْمَاعًا إِلا الشَّعْرَ وَالصُّوفَ وَالْوَبَرَ. وَإِنْ قُطِعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ قِيلَ بِطَهَارَتِهِ فَأَجْزَاؤُهُ كُلُّهَا طَاهِرَةٌ، وَإِنْ قِيلَ بِالنَّجَاسَةِ فَلَحْمُهُ نَجِسٌ.

وَأَمَّا الْعَظْمُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالْقَرْنِ وَالسِّنِّ وَالظِّلْفِ فَهِيَ نَجِسَةٌ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَأَمَّا الصُّوفُ وَالْوَبَرُ وَالشَّعْرُ فَهِيَ طَاهِرَةٌ مِنَ الْمَيْتَةِ. (٦)

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: الْجُزْءُ الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْحَيِّ كَمَيْتَةِ ذَلِكَ الْحَيِّ: إِنْ كَانَ طَاهِرًا فَطَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَنَجِسٌ لِخَبَرِ: " مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ "، فَالْمُنْفَصِلُ مِنَ الآدَمِيِّ أَوِ السَّمَكِ أَوِ الْجَرَادِ طَاهِرٌ، وَمِنْ غَيْرِهَا نَجِسٌ إِلا شَعْرَ الْمَأكُولِ أَوْ صُوفَهُ أَوْ رِيشَهُ أَوْ وَبَرَهُ فَطَاهِرٌ بِالإِجْمَاعِ وَلَوْ نُتِفَ مِنْهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أُخِذَ بَعْدَ التَّذْكِيَةِ أَوْ فِي الْحَيَاةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ. (٧)

وَقَالُوا: دَخَلَ فِي نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ جَمِيعُ أَجْزَائِهَا مِنْ عَظْمٍ وَشَعْرٍ وَصُوفٍ وَوَبَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لأَنَّ كُلا مِنْهَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ. (٨)

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَقَرْنُهَا وَظُفْرُهَا وَعَصَبُهَا وَحَافِرُهَا، وَأُصُولُ شَعْرِهَا إِذَا نُتِفَ، وَأُصُولُ رِيشِهَا إِذَا نُتِفَ وَهُوَ رَطْبٌ أَوْ يَابِسٌ نَجِسٌ، لأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ أَشْبَهَ سَائِرَهَا، وَلأَنَّ أُصُولَ الشَّعْرِ وَالرِّيشِ جُزْءٌ مِنَ اللَّحْمِ لَمْ يَسْتَكْمِلْ شَعْرًا وَلا رِيشًا.

وَصُوفُ مَيْتَةٍ طَاهِرَةٍ فِي الْحَيَاةِ كَالْغَنَمِ طَاهِرٌ، وَشَعْرُهَا وَوَبَرُهَا وَرِيشُهَا طَاهِرٌ وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَأكُولَةٍ كَهِرٍّ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} وَالآيَةُ سِيقَتْ لِلامْتِنَانِ، فَالظَّاهِرُ شُمُولُهَا لِحَالَتَيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالرِّيشُ مَقِيسٌ عَلَى هَذِهِ الثَّلاثَةِ.

وَمَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ مِنْ قَرْنٍ وَإِلْيَةٍ وَنَحْوِهِمَا كَحَافِرٍ وَجِلْدٍ فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ طَهَارَةً أَوْ نَجَاسَةً (٩)، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ ".


(١) تبيين الحقائق ١/ ٢٦، وأحكام القرآن للجصاص ١/ ١٤٩، والبدائع ١/ ٦٣، والذخيرة ١/ ١٨٣، والتفريع ١/ ٤٠٨، ومدارج السالكين ٣/ ٢٦٠، والكافي لابن عبد البر ١/ ٤٣٩، وأحكام القرآن لابن العربي ٣/ ١١٦٩، وبداية المجتهد ١/ ٧٨، والمجموع ١/ ٢٣١، والإنصاف ١/ ٩٢، وتفسير الرازي ٥/ ١٥، والمغني ١/ ١٠٦.
(٢) أحكام القرآن للجصاص ١/ ١٥٠.
(٣) الذخيرة ١/ ١٨٤.
(٤) أحكام القرآن لابن العربي ٣/ ١١٦٩.
(٥) حاشية ابن عابدين ١/ ١٣٧ ـ ١٣٨ ط: الثالثة المطبعة الأميرية الكبرى ١٣٢٣ هـ، والاختيار شرح المختار ١/ ١٥ مطبعة حجازي.
(٦) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك ١/ ٥١، ٥٢، والشرح الصغير ١/ ٤٩ ـ ٥١، وحاشية الدسوقي ١/ ٤٩ ـ ٥٤.
(٧) الإقناع للشربيني الخطيب ١/ ٣٠.
(٨) مغني المحتاج ١/ ٧٨.
(٩) كشاف القناع ١/ ٥٦، ٥٧.