للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

هَجْرُ الْمُجَاهِر بِالْمَعَاصِي (١)


(١) قال ابن مفلح في (الآداب الشرعية) ج١ص٢٣٠: يُسَنُّ هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ وَالِاعْتِقَادِيَّة.
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ , وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ , لَمْ يَأثَمْ إنْ هُوَ جَفَاهُ حَتَّى يَرْجِعَ , وَإِلَّا كَيْفَ يَتَبَيَّنُ لِلرَّجُلِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَرَ مُنْكِرًا وَلَا جَفْوَةً مِنْ صَدِيقٍ؟.
وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ: يَكُونُ فِي سَقْفِ الْبَيْتِ الذَّهَبُ , يُجَانَبُ صَاحِبُهُ , يُجْفَى صَاحِبُهُ وَقَدْ اُشْتُهِرَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي هَجْرِهِ مَنْ أَجَابَ فِي الْمِحْنَةِ إلَى أَنْ مَاتَ.
وَقِيلَ: يَجِبُ إنْ ارْتَدَعَ بِهِ , وَإِلَّا كَانَ مُسْتَحَبًّا.
وَقِيلَ: يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا , إلَّا مِنْ السَّلَامِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
وَقِيلَ: تَرْكُ السَّلَامِ عَلَى مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى يَتُوبَ مِنْهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ , وَيُكْرَهُ لِبَقِيَّةِ النَّاسِ تَرْكُهُ.
وَظَاهِرُ مَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ تَرْكُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ مُطْلَقًا.
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ وَقِيلَ لَهُ: يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ لَا يُكَلِّمَ أَحَدًا؟ , فَقَالَ: نَعَمْ , إذَا عَرَفْتَ مِنْ أَحَدٍ نِفَاقًا , فَلَا تُكَلِّمْهُ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَافَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا , فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ لَا يُكَلِّمُوهُمْ , قُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ , كَيْفَ يُصْنَعُ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ , قَالَ: أَمَّا الْجَهْمِيَّةُ وَالرَّافِضَةُ فَلَا , قِيلَ لَهُ: فَالْمُرْجِئَةُ , قَالَ: هَؤُلَاءِ أَسْهَلُ , إلَّا الْمُخَاصِمَ مِنْهُمْ , فَلَا تُكَلِّمْهُ.
وَنَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ: نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلَامِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا بِالْمَدِينَةِ حِينَ خَافَ عَلَيْهِمْ النِّفَاقَ , وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ خِفْنَا عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ اتَّهَمَهُمْ بِالنِّفَاقِ , وَكَذَا مَنْ اُتُّهِمَ بِالْكُفْرِ , لَا بَأسَ أَنْ يُتْرَكَ كَلَامُهُ.
قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ أَخَذَ أَحْمَدُ رضي الله عنه بِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ فِي رِوَايَةِ مُثَنَّى الْأَنْبَارِيِّ , وَقَدْ سَأَلَهُ أَكْثَرَ مَا يُعْرَفُ فِي الْمُجَانَبَةِ , فَذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - فِي تَرْكِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَلَامَهَا , وَالسَّلَامَ عَلَيْهَا حِينَ ذُكِرَ مَا ذُكِرَ كَذَا حَكَاهُ , وَلَمْ أَجِدْ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ هَذَا , بَلْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَأذَنَ لَهَا أَنْ تَذْهَبَ إلَى بَيْتِ أَبِيهَا , وإذَا دَخَلَ عَلَيْهَا يُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: " كَيْفَ تِيكُمْ؟ " , فَفِي هَذَا تَرْكُ اللُّطْفِ فَقَطْ , وَأَمَّا قِصَّةُ كَعْبٍ , فَفِيهَا تَرْكُ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ , وَلِهَذَا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَأَقُولُ: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ؟ , وَإِنَّهُ سَلَّمَ عَلَى أَبِي قَتَادَةَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ , وَحَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ شَرَحَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي هَجْرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْمَعَاصِي بِتَرْكِ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ , بِخَوْفِ الْمَعْصِيَةِ. وَفِي رِوَايَةِ مُثَنَّى الْمَذْكُورَةِ وَاَلَّتِي قَبْلهَا إبَاحَةُ الْهَجْرِ وَتَرْكُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ بِخَوْفِ الْمَعْصِيَةِ , وَرِوَايَةُ الْمَيْمُونِيِّ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ , وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ صَرِيحٌ فِي النُّشُوزِ عَلَى تَحْرِيمِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ فِي هِجْرَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ قِصَّةَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهَجْرِهِ , ثُمَّ تَابَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ , كَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ الْآجُرِّيِّ , وَلَمْ أَجِدْ هَذَا فِي قِصَّةِ حَاطِبٍ , بَلْ فِيهَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: صَدَقَ , وَلَا تَقُولُوا لَهُ إلَّا خَيْرًا ".
قَالَ الْقَاضِي وَرَوَى الْآجُرِّيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ , وَإِنَّ مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْقَدَرِيَّةُ , فَلَا تَعُودُوهُمْ إذَا مَرِضُوا وَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ إذَا مَاتُوا " قَالَ الْقَاضِي هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي الْهَجْرِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لِأَيُّوبَ: لَا تُجَالِسْ طَلْقَ بْنَ حَبِيبٍ , فَإِنَّهُ مُرْجِئٌ ,
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ لِرَجُلٍ تَكَلَّمَ عِنْدَهُ فِي الْإِرْجَاءِ: إذَا قُمْت مِنْ عِنْدِنَا فَلَا تَعُدْ إلَيْنَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ: لَا تُجَالِسُوا أَصْحَابَ الْقَدَرِ وَلَا تُمَارُوهُمْ ,
وَكَانَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ إذَا جَلَسَ يَقُولُ: مَنْ كَانَ قَدَرِيًّا فَلْيَقُمْ ,
وَعَنْ طَاوُسٍ وَأَيُّوبَ , وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ أَبِي السُّوَارِ وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ مَعْنَى ذَلِكَ.
قَالَ الْقَاضِي: هُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ , وَقَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ حَلَّ بِهَا الْهَجْرُ لَمْ تَتَقَدَّرْ بِالثَّلَاثِ , أَوْ نَقُولُ: جَازَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ , دَلِيلُهُ هَجْرُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ عِنْدَ إظْهَارِ النُّشُوزِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}.
قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يُهْجَرُ أَهْلُ الذِّمَّةِ لِأَنَّا عَقَدْنَاهَا مَعَهُمْ لِمَصْلَحَتِنَا بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ , فَلَوْ قُلْنَا: يُهْجَرُونَ , زَالَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد لِأَبِي عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَرَى رَجُلًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ أَتْرُكُ كَلَامَهُ قَالَ: لَا , أَوْ تُعْلِمُهُ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي رَأَيْته مَعَهُ صَاحِبُ بِدْعَةٍ فَإِنْ تَرَكَ كَلَامَهُ فَكَلِّمْهُ , وَإِلَّا فَأَلْحِقْهُ بِهِ.