للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

الْبَابُ الْأَوَّل: تَعْرِيفُ الطَّهَارَة

الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّظَافَةُ، يُقَال: طَهُرَ الشَّيْءُ , يَطْهُرُ , طَهَارَةً، وَالاِسْمُ: الطُّهْرُ، وَطَهَّرَهُ تَطْهِيرًا، وَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ، وَهُمْ قَوْمٌ يَتَطَهَّرُونَ , أَيْ: يَتَنَزَّهُونَ مِنَ الْأَدْنَاسِ، وَرَجُلٌ طَاهِرُ الثِّيَابِ، أَيْ: مُنَزَّهٌ. (١)

وَفِي الشَّرْعِ: تُطلقُ على معنيين: الأول: أصْل، وهو طهارة القلب من الشِّرك في عبادة الله، والغِلِّ والبغضاء لعباد الله المؤمنين، وهي أهمُّ من طهارة البدن؛ بل لا يمكن أن تقومَ طهارة البدن مع وجود نَجَس الشِّرك، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: ٢٨] , وقال النَّبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلَّم -: «إنَّ المؤمن لا يَنْجُسُ» (خ) ٢٨٥ , (م) ٣٧١.

والثاني: فَرْع، وهي الطَّهارة الحسِّيَّةُ , وهي: ارتفاعُ الحَدَث - أي: زواله - ومَا في مَعْنَاهُ، وَزَوَالُ الخَبَثِ. فَالطَّهَارَةُ (الحسِّيَّةُ) تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: طَهَارَةٌ مِنَ الْحَدَثِ، وَطَهَارَةٌ مِنَ النَّجِسِ، أَيْ: حُكْمِيَّةٌ وَحَقِيقِيَّةٌ.

والحَدَثُ: وصفٌ قائمٌ بالبدن يمنع من الصَّلاة ونحوها مما تُشْتَرَطُ له الطَّهارةُ. مثاله: رجل بَالَ واستنجى، ثم توضَّأ , فكان حين بوله لا يستطيع أن يُصلِّيَ، فلما توضأ ارتفع الحَدَثُ، فيستطيع بذلك أن يصلِّي لزوال الوصف المانع من الصَّلاة.

فَالْحَدَثُ هُوَ: الْحَالَةُ النَّاقِضَةُ لِلطَّهَارَةِ شَرْعًا، بِمَعْنَى أَنَّ الْحَدَثَ إِنْ صَادَفَ طَهَارَةً نَقَضَهَا، وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ طَهَارَةً فَمِنْ شَأنِهِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ.

والنَّجاسة: كلُّ عَينٍ يَحْرُم تناولُها؛ لا لحرمتها؛ ولا لاستقذارها؛ ولا لضررٍ ببدَنٍ أو عقلٍ.

وإنْ شئت فقل: كلُّ عينٍ يجب التطهُّرُ منها , هكذا حدُّوها. (٢)

فقولنا: «يحرم تناولُها» خرج به المباحُ، فكلُّ مباحٍ تناولُه فهو طاهر.

وقولنا: «لا لضررها» خرج به السُّمُّ وشبهُه، فإنَّه حرام لضرره، وليس بنجس.

وقولنا: «ولا لاستقذارها»: خرج به المخاطُ وشبهُه، فليس بنجس؛ لأنَّه محرَّمٌ لاستقذاره.

وقولنا: «ولا لحرمتها» خرج به الصَّيْدُ في حال الإحرام، والصَّيْدُ داخلَ الحرمِ؛ فإِنه حرام لحرمته.

وزوالُهَا (النجاسة) طهارة، سواءٌ زالت بنفسها، أو زالَت بمُزيل آخر، فيُسمَّى ذلك طهارة.

فمثلاً: إذا فرضنا أن أرضاً نجسة بالبول، ثم جاء المطر وطَهَّرَها، فإِنها تَطْهُرُ بدون إزالةٍ مِنَّا. (٣)

وَالْأُولَى مِنْهُمَا - وَهِيَ الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ - شُرِعَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: ٦]

وَلِقَوْلِهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم -: لَا تُقْبَل صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ. (٤)

وَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا - وَهِيَ طَهَارَةُ الْجَسَدِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يُصَلَّى عَلَيْهِ مِنَ النَّجِسِ - شُرِعَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: ٤] ,

وقَوْله تَعَالَى {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: ١٢٥]

وَبِقَوْلِهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم -: " اغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي " (٥)

وَبِقَوْلِهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم -: " طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ " (٦)

فالطهارة التي ذكرها رسول الله - صلى اللهُ عليه وسلَّم - لهذا الإناء ليست من الحدث , ولكنها طهارة من الخبث - وهي النجاسة - ومع ذلك اعتبرها الشارع طهارة شرعية.

بهذه الأدلة تبين لنا أن رفع الحدث طهارة , وزوال النجاسة طهارة أيضا.

وقد جمع الله سبحانه وتعالى طهارة الحدث وطهارة النجاسة في آية واحدة , قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ , فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} (٧)

فقوله سبحانه {حَتَّى يَطْهُرْنَ} أَيْ: من النجاسة , التي هي دم الحيض.

وقوله سبحانه: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أَيْ: من الحدث الأكبر بالغسل بعد الطهارة من الحيض.

وهناك نوع ثالث من الطهارة لا يرتفع بها الحدث , ولا تُزال بها النجاسة , وهي مع ذلك طهارة شرعية , سماها الفقهاء: " في معنى ارتفاع الحدث " , أي: فلا يكون فيها ارتفاع حَدَث، ولكن فيها معناه.

ومن الطهارة التي في معنى ارتفاع الحدث: تجديد الوضوء , فهو طهارة مشروعة , ومع ذلك لم يرتفع بها الحدث , لأن الحدث قد ارتفع , ومثله: الأغسال المستحبة شرعا , ومثله: الغسلة الثانية والثالثة في الوضوء.

وكذلك طهارة المستحاضة , فإنه يُحكم لها بالطهارة , وإن كان الحدث مستمرا , ومثلها من به سلس بول.

ومن قال: إن هذه استباحة وليست طهارة , فالخلاف معه قريب من اللفظي , لأننا إذا أبحنا له فعل الصلاة , فقد حكمنا له بالطهارة. (٨)

وقد قال رسول الله - صلى اللهُ عليه وسلَّم -: " لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ " (٩)

فلما أُذِن له شرعا بالصلاة , علم أن هذه طهارته. (١٠)

فصار معنى ارتفاع الحدث: هو كل طهارة لا يحصُل بها رفع الحَدَث، أو لا تكون عن حَدَث. (١١)


(١) مختار الصحاح مادة: (طهر).
(٢) «الإِقناع» (١/ ٦)
(٣) الشرح الممتع على زاد المستقنع (١/ ٢٧ - ٢٦) (بتصرف يسير)
(٤) (م) ٢٢٤ , (ت) ١
(٥) (خ) ٣٠٠ , (م) ٦٢ - (٣٣٣) , (س) ٢١٨ , (د) ٢٨٢
(٦) (م) ٩١ - (٢٧٩) , (خ) ١٣٥
(٧) [البقرة: ٢٢٢]
(٨) الشرح الممتع على زاد المستقنع - (١/ ٢٦)
(٩) (م) ٢٢٤ , (ت) ١
(١٠) (الدبيان ج١ص٤٣)
(١١) الشرح الممتع على زاد المستقنع - (١/ ٢٦)