للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الْإيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُص (١)

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (٢)

وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (٣)

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا , فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا , وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (٤)

وَقَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ , وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا (٥)} (٦)


(١) ذَهَبَ السَّلَف إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُص.
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَكْثَر الْمُتَكَلِّمِينَ , وَقَالُوا: مَتَى قِيلَ ذَلِكَ , كَانَ شَكًّا.
قَالَ الشَّيْخ مُحْيِي الدِّين: وَالْأَظْهَرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ التَّصْدِيقَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِكَثْرَةِ النَّظَر وَوُضُوح الْأَدِلَّة، وَلِهَذَا كَانَ إِيمَانُ الصِّدِّيقِ أَقْوَى مِنْ إِيمَانِ غَيْره , بِحَيْثُ لَا يَعْتَرِيهِ الشُّبْهَة.
وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَا فِي قَلْبِهِ يَتَفَاضَل، حَتَّى إِنَّهُ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ الْإِيمَانُ أَعْظَمُ يَقِينًا وَإِخْلَاصًا وَتَوَكُّلًا مِنْهُ فِي بَعْضهَا، وَكَذَلِكَ فِي التَّصْدِيق وَالْمَعْرِفَة , بِحَسَبِ ظُهُور الْبَرَاهِين وَكَثْرَتهَا.
وَقَدْ نَقَلَ مُحَمَّد بْن نَصْر الْمَرْوَزِيّ فِي كِتَابه " تَعْظِيم قَدْر الصَّلَاة " عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَئِمَّة نَحْوَ ذَلِكَ.
وَمَا نُقِلَ عَنْ السَّلَف صَرَّحَ بِهِ عَبْد الرَّزَّاق فِي مُصَنَّفه عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيّ , وَمَالِك بْن أَنَس , وَالْأَوْزَاعِيّ , وَابْن جُرَيْجٍ , وَمَعْمَر , وَغَيْرهمْ، وَهَؤُلَاءِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي عَصْرهمْ.
وَكَذَا نَقَلَهُ أَبُو الْقَاسِم اللَّالِكَائِيّ فِي " كِتَاب السُّنَّة " عَنْ الشَّافِعِيّ , وَأَحْمَد بْن حَنْبَل , وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْه , وَأَبِي عُبَيْد , وَغَيْرهمْ مِنْ الْأَئِمَّة.
وَرَوَى بِسَنَدِهِ الصَّحِيحِ عَنْ الْبُخَارِيّ قَالَ: " لَقِيتُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالْأَمْصَارِ , فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ يَخْتَلِفُ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُص ".
وَأَطْنَبَ اِبْن أَبِي حَاتِم وَاللَّالِكَائِيّ فِي نَقْل ذَلِكَ بِالْأَسَانِيدِ عَنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ, وَكُلِّ مَنْ يَدُورُ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ , وَحَكَاهُ فُضَيْلُ بْن عِيَاض , وَوَكِيعُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّة وَالْجَمَاعَة.
وَقَالَ الْحَاكِم فِي مَنَاقِب الشَّافِعِيّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس الْأَصَمّ, أَخْبَرَنَا الرَّبِيع قَالَ: سَمِعْت الشَّافِعِيّ يَقُول: " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ "
وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم فِي تَرْجَمَة الشَّافِعِيّ مِنْ الْحِلْيَة مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ الرَّبِيعِ , وَزَادَ: " يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ , وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ ". (فتح - ج١ص٧٠)
قَالَ اِبْن بَطَّال: التَّفَاوُت فِي التَّصْدِيق عَلَى قَدْر الْعِلْمِ وَالْجَهْل، فَمَنْ قَلَّ عِلْمُه كَانَ تَصْدِيقُهُ مَثَلًا بِمِقْدَارِ ذَرَّة، وَالَّذِي فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ , تَصْدِيقُهُ بِمِقْدَارِ بُرَّة، أَوْ شَعِيرَة , إِلَّا أَنَّ أَصْلَ التَّصْدِيقِ الْحَاصِلِ فِي قَلْبِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النُّقْصَان، وَيَجُوزُ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ بِزِيَادَةِ الْعِلْمِ وَالْمُعَايَنَة. اِنْتَهَى.
وأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مِنْ الْحِلْيَةِ قَالَ: " قِيلَ لِابْنِ عُيَيْنَةَ: إِنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ كَلَام، فَقَالَ: كَانَ هَذَا قَبْل أَنْ تُنَزَّل الْأَحْكَام، فَأُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ، فَلَمَّا عَلِمَ اللهُ صِدْقهمْ , أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ , فَفَعَلُوا، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلُوا مَا نَفَعَهُمْ الْإِقْرَار , فَذَكَرَ الْأَرْكَانَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا عَلِمَ اللهُ مَا تَتَابَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْفَرَائِضِ وَقَبُولِهِمْ قَالَ: {الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ} الْآيَة , فَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَسَلًا , أَوْ مُجُونًا , أَدَّبْنَاهُ عَلَيْهِ , وَكَانَ نَاقِصَ الْإِيمَان، وَمَنْ تَرَكَهَا جَاحِدًا , كَانَ كَافِرًا ". اِنْتَهَى مُلَخَّصًا
وَتَبِعَهُ أَبُو عُبَيْد فِي كِتَاب الْإِيمَان لَهُ , فَذَكَرَ نَحْوه , وَزَادَ: " إِنَّ بَعْض الْمُخَالِفِينَ لَمَّا أُلْزِمَ بِذَلِكَ , أَجَابَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ مَجْمُوعُ الدِّين، إِنَّمَا الدِّينُ ثَلَاثَة أَجْزَاء: الْإِيمَانُ جُزْء، وَالْأَعْمَالُ جُزْءَانِ , لِأَنَّهَا فَرَائِضُ وَنَوَافِل ".
وَتَعَقَّبَهُ أَبُو عُبَيْد بِأَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآن، وَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ}، وَالْإِسْلَامُ حَيْثُ أُطْلِقَ مُفْرَدًا , دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُه.
وَمَنْ اِعْتَرَضَ عَلَى الْمُصَنِّف (البخاري) بِأَنَّ آيَة {أَكْمَلْتُ لَكُمْ} لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى مُرَادِه؛ لِأَنَّ الْإِكْمَالَ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى إِظْهَارِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ أَوْ بِمَعْنَى إِظْهَار أَهْلِ الدِّينِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ , فَلَا حُجَّة لِلْمُصَنِّفِ فِيهِ.
وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى إِكْمَالِ الْفَرَائِض , لَزِمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ نَاقِصًا، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ الصَّحَابَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَة , كَانَ إِيمَانُهُ نَاقِصًا.
فَالْجَوابُ: أنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ , لِأَنَّ الْإِيمَان لَمْ يَزَلْ تَامًّا.
وَيُوَضِّح دَفْع هَذَا الِاعْتِرَاض جَوَابُ الْقَاضِي أَبِي بَكْر بْن الْعَرَبِيّ بِأَنَّ النَّقْصَ أَمْرٌ نِسْبِيّ، لَكِنْ , مِنْهُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الذَّمُّ , وَمِنْهُ مَا لَا يَتَرَتَّب.
فَالْأَوَّل: مَا نَقْصُهُ بِالِاخْتِيَارِ , كَمَنْ عَلِمَ وَظَائِفَ الدِّين , ثُمَّ تَرَكَهَا عَمْدًا.
وَالثَّانِي: مَا نَقْصُهُ بِغَيْرِ اِخْتِيَار , كَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ , أَوْ لَمْ يُكَلَّف، فَهَذَا لَا يُذَمّ , بَلْ يُحْمَدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ قَلْبُهُ مُطَمْئِنًا بِأَنَّهُ لَوْ زِيدَ لَقَبِلَ , وَلَوْ كُلِّفَ لَعَمِلَ، وَهَذَا شَأنُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْل نُزُولِ الْفَرَائِض.
وَمُحَصِّلُه أَنَّ النَّقْصَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ صُورِيٌّ نِسْبِيٌّ، وَلَهُمْ فِيهِ رُتْبَةُ الْكَمَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى.
وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُول: إِنَّ شَرْعَ مُحَمَّدٍ أَكْمَلُ مِنْ شَرْعِ مُوسَى وَعِيسَى , لِاشْتِمَالِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ فِي الْكُتُبِ الَّتِي قَبْلَه، وَمَعَ هَذَا , فَشَرْعُ مُوسَى فِي زَمَانِه كَانَ كَامِلًا، وَتَجَدَّدَ فِي شَرْعِ عِيسَى بَعْدَه مَا تَجَدَّدَ، فَالْأَكْمَلِيَّةُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ كَمَا تَقَرَّرَ. وَالله أَعْلَم. (فتح - ج١ص١٥٤)
(٢) [الأنفال: ٢]
(٣) [الفتح: ٤]
(٤) [التوبة: ١٢٤]
(٥) فَإِنْ قِيلَ: كَيْف دَلَّتْ هَذِهِ الآية عَلَى تَرْجَمَة الْبَاب؟ ,
أُجِيبَ: مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا بَيَّنَتْ أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ بِعَرَفَة، وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَجَّة الْوَدَاع , الَّتِي هِيَ آخِرُ عَهْدِ الْبَعْثَة , حِين تَمَّتْ الشَّرِيعَةُ وَأَرْكَانُهَا. وَالله أَعْلَم
وَقَدْ جَزَمَ السُّدِّيّ بِأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَام. (فتح-ح٤٥)
(٦) [المائدة/٣]