عَرَق اَلْكَلْب
اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ طَهَارَةِ عَرَقِ الْحَيَوَانِ:
فَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ عَرَقَ الْحَيَوَانِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: طَاهِرٍ، وَنَجِسٍ، وَمَكْرُوهٍ، وَمَشْكُوكٍ فِيهِ، وَذَلِكَ؛ لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُتَوَلِّدٌ مِنَ اللَّحْمِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ.
فَالطَّاهِرُ: عَرَقُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَعَرَقُ الْفَرَسِ، أَمَّا عَرَقُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ؛ فَلأَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ لَحْمٍ مَأكُولٍ فَأَخَذَ حُكْمَهُ، وَأَمَّا طَهَارَةُ عَرَقِ الْفَرَسِ؛ فَلأَنَّ عَرَقَهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ لَحْمِهِ وَهُوَ طَاهِرٌ، وَحُرْمَتُهُ لِكَوْنِهِ آلَةَ الْجِهَادِ لا لِنَجَاسَتِهِ.
وَالنَّجِسُ: عَرَقُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ، أَمَّا الْكَلْبُ فَلِنَجَاسَةِ سُؤْرِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ " فَهَذَا الْحَدِيثُ يُفِيدُ النَّجَاسَةَ؛ لأَنَّ الطَّهُورَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ فَيَسْتَدْعِي سَابِقَةَ التَّنَجُّسِ أَوِ الْحَدَثِ، وَالثَّانِي مُنْتَفٍ، فَتَعَيَّنَ الأَوَّلُ، وَأَمَّا الْخِنْزِيرُ؛ فَلأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} وَأَمَّا سِبَاعُ الْبَهَائِمِ؛ فَلأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ لَحْمِهَا، وَلَحْمُهَا حَرَامٌ نَجِسٌ؛ لِمَا وَرَدَ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ ".
وَالْمَكْرُوهُ: عَرَقُ الْهِرَّةِ وَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلاةِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ وَسَوَاكِنِ الْبُيُوتِ، قَالَ الْكَرْخِيُّ: كَرَاهِيَةُ عَرَقِ الْهِرَّةِ لأَجْلِ أَنَّهَا لا تَتَحَامَى النَّجَاسَةَ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: الْكَرَاهَةُ لِحُرْمَةِ لَحْمِهَا
قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِلَى التَّحْرِيمِ أَقْرَبُ كَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ؛ لأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْكَرَاهَةِ لازِمٌ غَيْرُ عَارِضٍ، وَقَوْلُ الْكَرْخِيِّ يَدُلُّ عَلَى التَّنَزُّهِ، وَهَذَا أَصَحُّ وَالأَقْرَبُ إِلَى مُوَافَقَةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِيهَا: " إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسٍ إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ " وَأَمَّا كَرَاهَةُ عَرَقِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلاةِ فَلِعَدَمِ تَحَامِيهَا النَّجَاسَةَ، وَيَصِلُ مِنْقَارُهَا إِلَى مَا تَحْتَ رِجْلَيْهَا، وَيَلْحَقُ بِهَا الإِبِلُ وَالْبَقَرُ الْجَلالَةُ، وَأَمَّا كَرَاهَةُ عَرَقِ سِبَاعِ الطَّيْرِ وَسَوَاكِنِ الْبُيُوتِ فَاسْتِحْسَانًا لِلضَّرُورَةِ وَعُمُومِ الْبَلْوَى، فَسِبَاعُ الطَّيْرِ تَنْقَضُّ مِنْ عُلُوٍّ وَهَوَاءٍ فَلا يُمْكِنُ صَوْنُ الأَوَانِي عَنْهَا لا سِيَّمَا فِي الْبَرَارِيِّ، وَسَوَاكِنِ الْبُيُوتِ طَوَافُهَا أَلْزَمُ مِنَ الْهِرَّةِ؛ لأَنَّ الْفَأرَةَ تَدْخُلُ مَا لا تَقْدِرُ الْهِرَّةُ دُخُولَهُ وَهُوَ الْعِلَّةُ فِي الْبَابِ لِسُقُوطِ النَّجَاسَةِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا؛ لأَنَّ لَحْمَهَا نَجِسٌ وَحَرَامٌ. وَالْعَرَقُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ عَرَقُ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ لِتَعَارُضِ الأَدِلَّةِ؛ لأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنِ " النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ: أَمَرَ يَوْمَ خَيْبَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ وَقَالَ: إِنَّهَا رِجْسٌ ". وَأَمَّا الْبَغْلُ فَهُوَ مِنْ نَسْلِ الْحِمَارِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: قِيلَ: سَبَبُهُ تَعَارُضُ الأَخْبَارِ فِي لَحْمِهِ، وَقِيلَ اخْتِلافُ الصَّحَابَةِ فِي سُؤْرِهِ، وَالأَصَحُّ: أَنَّ الْحِمَارَ أَشْبَهَ الْهِرَّةَ لِوُجُودِهِ فِي الدُّورِ وَالأَفْنِيَةِ، لَكِنَّ الضَّرُورَةَ فِيهِ دُونَ الضَّرُورَةِ فِيهَا لِدُخُولِهَا مَضَايِقَ الْبَيْتِ فَأَشْبَهَ الْكَلْبَ وَالسِّبَاعَ، فَلَمَّا ثَبَتَ الضَّرُورَةُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَاسْتَوَى مَا يُوجِبُ الطَّهَارَةَ وَالنَّجَاسَةَ تَسَاقَطَا لِلتَّعَارُضِ، فَصُيِّرَ إِلَى الأَصْلِ، وَهُوَ هُنَا شَيْئَانِ: الطَّهَارَةُ فِي الْمَاءِ، وَالنَّجَاسَةُ فِي اللُّعَابِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الآخَرِ فَبَقِيَ الأَمْرُ مُشْكِلا، نَجِسًا مِنْ وَجْهٍ، طَاهِرًا مِنْ آخَرَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ عَرَقِ كُلِّ حَيَوَانٍ حَيٍّ، بَحْرِيًّا كَانَ أَوْ بَرِّيًّا، وَلَوْ كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعَرَقَ لَهُ حُكْمُ حَيَوَانِهِ طَهَارَةً وَنَجَاسَةً، فَعَرَقُ الْحَيَوَانِ الطَّاهِرِ طَاهِرٌ، وَعَرَقُ الْحَيَوَانِ النَّجِسِ نَجِسٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كُلُّ الْحَيَوَانَاتِ طَاهِرَةٌ مَا عَدَا الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَمَا تَفَرَّعَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: النَّجِسُ مِنَ الْحَيَوَانِ مَا لا يُؤْكَلُ مِنَ الطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ مِمَّا فَوْقَ الْهِرِّ خِلْقَةً كَالصَّقْرِ وَالْبُومِ وَالْعُقَابِ وَالْحِدَأَةِ وَالنَّسْرِ وَالرَّخَمِ وَغُرَابِ الْبَيْنِ وَالأَبْقَعِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَالأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ وَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَابْنِ آوَى وَالدُّبِّ وَالْقِرْدِ. قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي طَهَارَةُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ؛ لأَنَّ " النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْكَبُهُمَا وَيُرْكَبَانِ فِي زَمَنِهِ وَفِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ " فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَبَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ؛ وَلأَنَّهُمَا لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُمَا لِمُقْتَنِيهِمَا فَأَشْبَهَا السِّنَّوْرَ. (١)
(١) تبيين الحقائق ١/ ٣١ وما بعدها، حاشية ابن عابدين ١/ ١٤٨ وما بعدها، حاشية الدسوقي ١/ ٥٠، روضة الطالبين ١/ ١٣، ١٦، مغني المحتاج ١/ ٧٨، ٨١، مطالب أولى النهى ١/ ٢٣١ وما بعدها ٢٣٤، ٢٣٧، كشاف القناع ١/ ١٩٢، والمغني لابن قدامة ١/ ٤٩.