للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ انْقِطَاعُ مُوجِبِ الطَّهَارَةِ إِلَّا فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْأَعْذَار

(خ م س) , عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ (أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ - رضي الله عنها - حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - فَشَكَتْ إِلَيْهِ الدَّمَ) (١) (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ , إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فلَا أَطْهُرُ , أَفَأَدَعُ الصَلَاةَ؟، فَقَالَ: " لَا , إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ , وَلَيْسَ بِحَيْضٍ) (٢) (إِنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمٌ أَسْوَدٌ يُعْرَفُ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ (وفي رواية: إِذَا أَتَاكِ قَرْؤُكِ) (٣) فَأَمْسِكِي عَنْ الصَلَاةِ , وَإِذَا كَانَ الْآخَرُ , فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي) (٤) وفي رواية: (إِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ) (٥) (قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا) (٦) (فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا , فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي) (٧) وفي رواية: (فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا) (٨) (فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي (٩)) (١٠) (وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ) (١١)

وفي رواية: (فَإِذَا مَرَّ قَرْؤُكِ فَتَطَهَّرِي , ثُمَّ صَلِّي مَا بَيْنَ الْقَرْءِ إِلَى الْقَرْءِ ") (١٢)

الشَّرْح:

(إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ) يُقَالُ: اسْتُحِيضَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ بَعْدَ أَيَّامِهَا الْمُعْتَادَةِ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ وَالِاسْتِحَاضَةُ جَرَيَانُ الدَّمِ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ. فتح (٢٢٨)

وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ عِرْقٍ يُقَالُ لَهُ: الْعَاذِلُ , بِخِلَافِ دَمِ الْحَيْضِ , فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ الرَّحِمِ. النووي (٦٢ - ٣٣٣)

(فلَا أَطْهُرُ) قَالت: " إِنِّي لَا أَطْهُرُ " , وَالسَّبَبِ هُوَ قَوْلُهَا: " إِنِّي أُسْتَحَاضُ " , وَكَانَ عِنْدَهَا أَنَّ طَهَارَةَ الْحَائِضِ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِانْقِطَاعِ الدَّمِ فَكَنَّتْ بِعَدَمِ الطُّهْر عَن اتِّصَاله , وَكَانَت قد عَلِمَتْ أَنَّ الْحَائِضَ لَا تُصَلِّي , فَظَنَّتْ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مُقْتَرِنٌ بِجَرَيَانِ الدَّمِ مِنَ الْفَرْجِ , فَأَرَادَتْ تَحَقُّقَ ذَلِكَ , فَقَالَتْ:.فتح (٣٠٦)

(أَفَأَدَعُ الصَلَاةَ) أَيْ: أَيَكُونُ لِي حُكْمُ الْحَائِضِ , فَأَتْرُكَ الصَّلَاةَ؟.تحفة١٢٥

(فَقَالَ: " لَا , إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ) أَيْ: دَمُ عِرْقٍ انْشَقَّ وَانْفَجَرَ مِنْهُ الدَّمُ , أَوْ إِنَّمَا سَبَبُهَا عِرْقٌ مِنْهَا فِي أَدْنَى الرَّحِمِ. تحفة١٢٥

وَأَمَّا مَا يَقَعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ: " إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ انْقَطَعَ وَانْفَجَرَ " , فهي زيادةٌ لا تُعْرَف فِي الْحَدِيثِ , وَإِنْ كَانَ لَهَا مَعْنًى , وَاللهُ أَعْلَمُ. النووي (٦٢ - ٣٣٣)

(إِنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمٌ أَسْوَدٌ يُعْرَفُ) قوله - صلى اللهُ عليه وسلَّم - (يُعْرَفُ) فِيهِ احْتِمَالَانِ , الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ المعرفة , قال ابنُ رَسْلَانَ: أَيْ: تَعْرِفُهُ النِّسَاءُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: تَعْرِفُهُ النِّسَاءُ بِاعْتِبَارِ لَوْنِهِ وَثَخَانَتِهِ , كَمَا تَعْرِفُهُ بِاعْتِبَارِ عَادَتِهِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى صِيغَةِ الْمَعْرُوفِ , مِنَ الْأَعْرَافِ , أَيْ: لَهُ عَرْفٌ وَرَائِحَةٌ. عون٢٨٦

(وَإِذَا كَانَ الْآخَرُ) أَيِ: الَّذِي لَيْسَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ. عون٢٨٦

وفي رواية: (إِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ) الْمُرَادُ بِالْإِقْبَالِ: ابْتِدَاءُ دَمِ الْحَيْضِ. فتح (٢٢٨)

(فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا) أَيْ: قَدْرُ الْحَيْضَةِ عَلَى مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ , أَوْ عَلَى مَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ بِاجْتِهَادِهَا , أَوْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَادَتِهَا فِي حَيْضَتِهَا , فِيهِ احْتِمَالَاتٌ , ذَكَرَهُ الْبَاجِيُّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ. عون٢٨٣

(فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي)

وفي رواية: (فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا , فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي) وَهَذَا الِاخْتِلَافُ وَاقِعٌ بَيْنَ أَصْحَابِ هِشَامٍ , مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ غَسْلَ الدَّمِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاغْتِسَالَ , وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ الِاغْتِسَال وَلم يذكر غَسْلَ الدَّم , وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ , وَأَحَادِيثُهُمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ , فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ اخْتَصَرَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ , لِوُضُوحِهِ عِنْدَهُ. فتح٣٠٦

فَوائِدُ الْحَدِيث:

قَوْلُهُ - صلى اللهُ عليه وسلَّم -: " لَا " , فِيهِ أنَّ المُسْتحاضة تُصَلِّي أَبَدًا , إلَّا في الزَّمَنِ الْمَحْكُومِ بِأَنَّهُ حَيْضٌ , وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. (النووي) ٦٢ - (٣٣٣)

(إِذَا أَتَاكِ قَرْؤُكِ) قال النسائي: وهَذَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ حَيْضٌ. (س) ٢١١

قَوْلُهُ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - (إِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ) فِيهِ نَهْيٌ لَهَا عَنِ الصَّلَاةِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ , وَهُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ , وَيَقْتَضِي فَسَادَ الصَّلَاةِ هُنَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ , وَسَوَاءٌ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالنَّافِلَةِ , لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ , وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا الطَّوَافُ , وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ , وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ , وَسُجُودُ الشُّكْرِ , وَكُلُّ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ , وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُكَلَّفَةً بِالصَّلَاةِ , وَعَلَى أنه لا قضاء عَلَيْهَا , وَاللهُ أَعْلَمُ. (النووي) ٦٢ - (٣٣٣)

(قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا) فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْعَادَةِ , لَا لِلتَّمْيِيزِ. عون٢٨١

قال الحافظ: وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الرَّازِيُّ الْحَنَفِيُّ أَنَّ مُدَّةَ أَقَلِّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ , وَأَكْثَرَهُ عَشَرَةٌ , لِقَوْلِهِ " قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا " , لِأَنَّ أَقَلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ " أَيَّامٌ " ثَلَاثَةٌ , وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ , فَأَمَّا دُونَ الثَّلَاثَةِ , فَإِنَّمَا يُقَالُ: يَوْمَانِ , وَيَوْمٌ , وَأَمَّا فَوْقَ عَشَرَةٍ , فَإِنَّمَا يُقَالُ: أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا , وَهَكَذَا إِلَى عِشْرِينَ.

وَفِي الِاسْتِدْلَال بذلك نَظَرٌ. فتح٣٠٦

فِي قوله - صلى اللهُ عليه وسلَّم - (وَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي) دَلِيلٌ على أن المرأة إِذَا مَيَّزَتْ دَمَ الْحَيْضِ مِنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ تَعْتَبِرُ دَمَ الْحَيْضِ وَتَعْمَلُ عَلَى إِقْبَالِهِ وَإِدْبَارِهِ , فَإِذَا انْقَضَى قَدْرُهُ , اغْتَسَلَتْ عَنْهُ , ثُمَّ صَارَ حُكْمُ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ حُكْمَ الْحَدَثِ , فَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ. فتح٣٠٦

وَفِي الْحَدِيثِ: جَوَازُ اسْتِفْتَاءُ الْمَرْأَةِ بِنَفْسِهَا , وَمُشَافَهَتِهَا لِلرَّجُلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ النِّسَاءِ , وَجَوَازُ سَمَاعِ صَوْتِهَا لِلْحَاجَةِ. فتح٣٠٦

وفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ , وَأَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ , وَأَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ لِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ. (النووي) ٦٢ - (٣٣٣)

مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَة:

وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ علي بن أبي طالب , وعائشة , وابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهم - مِنَ الصَّحَابَةِ , وَالْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ , وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ , وَعَطَاءً , وَمَكْحُولًا وَالنَّخَعِيَّ , وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ , وَالْقَاسِمَ مِنَ التَّابِعِينَ , كُلُّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا , فَهَؤُلَاءِ مِنَ الْقَائِلِينَ بِمَا تَرْجَمَ بِهِ الْمُؤَلِّفُ (أبوداود) فِي الْبَابِ بِقَوْلِهِ: " وَمَنْ قَالَ: تَدَعُ الصَّلَاةَ فِي عِدَّةِ الْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ " , فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ , تَرْجِعُ الْمُسْتَحَاضَةُ إِلَى عَادَتِهَا الْمَعْرُوفَةِ إِنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ , وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. عون٢٨١

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ , فَأَبُو حَنِيفَةَ مَنَعَ اعْتِبَارَ التَّمْيِيزِ مُطْلَقًا وَالْبَاقُونَ عَمِلُوا بِالتَّمْيِيزِ فِي حَقِّ الْمُبْتَدَأَةِ , وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا تَعَارَضَتِ الْعَادَةُ وَالتَّمْيِيزُ.

فَاعْتَبَرَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا التَّمْيِيزَ , وَلَمْ ينظروا إلى العادة , وَعَكَسَ ابنُ خَيْرَانَ. تحفة١٢٥

قَالَ فِي سُبُلِ السَّلَامِ: وَهَذَا الحديث فيه رَدُّ الْمُسْتَحَاضَةِ إِلَى صِفَةِ الدَّمِ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَهُوَ حَيْضٌ , وَإِلَّا فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - قَالَ لَهَا: (إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ , فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ , وَإِذَا أَدْبَرَتْ , فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي) , ولا يُنَافِيهِ هَذَا الْحَدِيثُ , فَإِنَّهُ يَكُونُ قَوْلُهُ: (إِنَّ دَمَ الْحَيْضِ أَسْوَدُ يُعْرَفُ) بَيَانًا لِوَقْتِ إِقْبَالِ الْحَيْضَةِ وَإِدْبَارِهَا , فَالْمُسْتَحَاضَةُ إِذَا مَيَّزَتْ أَيَّامَ حَيْضِهَا , إِمَّا بِصِفَةِ الدَّمِ , أَوْ بِإِتْيَانِهِ فِي وَقْتِ عَادَتِهَا إِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً , عَمِلَتْ بِعَادَتِهَا.

فَفَاطِمَةُ هَذِهِ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ مُعْتَادَةً, فَيَكُونُ قَوْلُهُ: (فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ) أَيْ: بِالْعَادَةِ.

أَوْ غَيْرَ مُعْتَادَةٍ , فَيُرَادُ بِإقْبَالِ حَيْضَتِهَا بِالصِّفَةِ , وَلَا مَانِعَ مِنِ اجْتِمَاعِ الْمَعْرِفَتَيْنِ فِي حَقِّهَا وَحَقِّ غَيْرِهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. عون٢٨٦

(وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ) قال النووي (٦٢ - ٣٣٣):

اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ لَا تُصَلِّي بِطَهَارَةٍ وَاحِدَةٍ أَكْثَرَ مِنْ فَرِيضَةٍ وَاحِدَةٍ , مُؤَدَّاةٍ كَانَتْ أَوْ مَقْضِيَّةٍ. أ. هـ

لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: " ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ " , وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ. فتح٣٠٦

قال النووي: وَتَسْتَبِيحُ مَعَهَا مَا شَاءَتْ مِنَ النَّوَافِلِ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ وَبَعْدَهَا.

وَلَنَا وَجْهٌ أَنَّهَا لَا تَسْتَبِيحُ أَصْلًا , لِعَدَمِ ضَرُورَتِهَا إِلَيْهَا النَّافِلَةِ , وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ.

وَحُكِيَ مِثْلُ مَذْهَبِنَا عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ , وَسُفْيَانِ الثوري , وأحمد , وأبي ثور. أ. هـ

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْوُضُوءَ مُتَعَلِّقٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ , فَلَهَا أَنْ تُصَلِّيَ بِهِ الْفَرِيضَةَ الْحَاضِرَةَ , وَمَا شَاءَتْ مِنَ الْفَوَائِتِ , مَا لَمْ يَخْرُجْ وَقْتُ الْحَاضِرَةِ.

وَعَلَى قَوْلِهِمُ , الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ " أَيْ: لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ فَفِيهِ مَجَازُ الْحَذْفِ , وَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. فتح٣٠٦

قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: فَإِنْ قُلْتَ: قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: لَنَا قَوْلُهُ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - " الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ "

قُلْتُ: قَالَ الْحَافِظُ الزَّيْلَعِيُّ فِي تَخْرِيجِ الْهِدَايَةِ: غَرِيبٌ جِدًّا.

وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الدِّرَايَةِ: لَمْ أَجِدْهُ هَكَذَا , وَإِنَّمَا فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: " تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ "

فَإِنْ قُلْتَ: قال ابن الْهُمَامِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ نَقْلًا عَنْ شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ: رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: تَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ " , فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ بِلَفْظِ: " تَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ " , تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: " تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ " أي: لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ.

قُلْتُ: نَعَمْ , لَوْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ مَحْفُوظًا , لَكَانَ دَلِيلًا عَلَى الْمَطْلُوبِ , لَكِنَّ فِي كَوْنِهِ مَحْفُوظًا كَلَامًا , فَإِنَّ الطُّرُقَ الصَّحِيحَةَ كُلَّهَا قَدْ وَرَدَتْ بِلَفْظِ: " تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ " , وَأَمَّا هَذَا اللَّفْظُ , فَلَمْ يَقَعْ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا , وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ الإمامُ أبو حنيفة , وَهُوَ سَيِّءُ الحِفْظِ , كما صَرَّحَ بِهِ الحافظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ , وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. تحفة١٢٥

قال النووي: وَقَالَ ربيعة , ومالك , وداود: دم الاستحاضة لا يَنقضُ الْوُضُوءَ , فَإِذَا تَطَهَّرَتْ , فَلَهَا أَنْ تُصَلِّيَ بِطَهَارَتِهَا ما شاءت مِنَ الْفَرَائِضِ , إِلَى أَنْ تُحْدِثَ بِغَيْرِ الِاسْتِحَاضَةِ. أ. هـ

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُسْتَحَبُّ لَهَا الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاة , وَلَا يجب إِلَّا بِحَدَث آخَرَ. فتح٣٠٦

قال ابن عبد البر: لَيْسَ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ ذِكْرُ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ , وَذُكِرَ فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ , فَلِذَا كَانَ مَالِكٌ يَسْتَحِبُّهُ لَهَا وَلَا يُوجِبُهُ , كَمَا لَا يُوجِبُهُ عَلَى صَاحِبِ السَّلَسِ. تحفة١٢٥

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ بُطْلانِ طَهَارَةِ صَاحِبِ الْعُذْرِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهَا تَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ مَا لَمْ يَطْرَأ عَلَيْهَا فِي الْوَقْتِ نَاقِضٌ آخَرُ، وَلَوْ كَانَ مُمَاثِلا لِلْعُذْرِ الأَوَّلِ، كَمَا لَوْ سَالَ أَحَدُ مَنْخِرَيْهِ فَتَوَضَّأَ لَهُ، ثُمَّ سَالَ الآخَرُ فِي الْوَقْتِ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ بِالثَّانِي؛ لأَنَّهُ حَدَثٌ جَدِيدٌ، وَلا عِبْرَةَ بِالْمُمَاثَلَةِ؛ وَلأَنَّ الْحَدَثَ مُبْطِلٌ لِلطَّهَارَةِ، وَعِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ تَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ كَمَا تَبْطُلُ بِدُخُولِهِ (١٣) وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (١٤) فَالْحَدَثُ الآخَرُ وَخُرُوجُ الْوَقْتِ أَوْ دُخُولُهُ يُبْطِلانِ طَهَارَةَ صَاحِبِ الْعُذْرِ.

قال النووي: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَصِحُّ وُضُوءُ المُسْتَحاضة لِفريضةٍ قبلَ دُخولِ وَقْتِها.

وقال أبو حنيفة: يَجُوزُ.

وَدَلِيلُنَا أَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ , فَلَا تَجُوزُ قَبْلَ وَقْتِ الْحَاجَةِ.

قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا تَوَضَّأَتْ بَادَرَتْ إِلَى الصَّلَاةِ عَقِبَ طَهَارَتِهَا , فَإِنْ أَخَّرَتْ , بِأَنْ تَوَضَّأَتْ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ , وَصَلَّتْ فِي وَسَطِهِ , نُظِرَ , إِنْ كَانَ التَّأخِيرُ لِلِاشْتِغَالِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الصَّلَاةِ , كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ , وَالْأَذَانِ , وَالْإِقَامَةِ , وَالِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ , وَالذَّهَابِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ , وَالْمَوَاضِعِ الشَّرِيفَةِ , وَالسَّعْي فِي تَحْصِيلِ سُتْرَةٍ تُصَلِّي إِلَيْهَا , وَانْتِظَارِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ , جَازَ عَلَى الْمَذْهَبِ الصحيح المشهور ولنا وجهٌ: أنه لا يجوز , وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.

وَأَمَّا إِذَا أَخَّرَتْ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا , فَفِيهِ ثلاثة أوجه: أصحُّها: لا يجوز , وتبطل طهارتها.

والثاني: يجوز , ولا تبطل طَهَارَتُهَا , وَلَهَا أَنْ تُصَلِّيَ بِهَا وَلَوْ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ.

وَالثَّالِثُ: لَهَا التَّأخِيرُ مَا لَمْ يَخْرُجْ وَقْتُ الْفَرِيضَةِ , فَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ , فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ.

فَإِذَا قُلْنَا بالاصَحِّ , وأَنَّها إذا أخَّرَت لا تستبيح الْفَرِيضَةَ , فَبَادَرَتْ فَصَلَّتِ الْفَرِيضَةَ , فَلَهَا أَنْ تُصَلِّيَ النَّوَافِلَ مَا دَامَ وَقْتُ الْفَرِيضَةِ بَاقِيًا , فَإِذَا خَرَجَ وَقْتُ الْفَرِيضَةِ , فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ النَّوَافِلَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَاللهُ أَعْلَمُ.

قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكَيْفِيَّةُ نِيَّةِ الْمُسْتَحَاضَةِ فِي وُضُوئِهَا: أَنْ تَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ , وَلَا تَقْتَصِرُ عَلَى نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ.

وَلَنَا وَجْهٌ أَنَّهُ يُجْزِئُهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ.

وَوَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الْجَمْعُ بَيْنَ نِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ وَرَفْعِ الْحَدَثِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ , فَإِذَا تَوَضَّأَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ , اسْتَبَاحَتِ الصَّلَاةَ.

وَهَلْ يُقَالُ: ارْتَفَعَ حَدَثُهَا؟ , فِيهِ أَوْجُهٌ لِأَصْحَابِنَا , الْأَصَحُّ: أنه لا يرتفع شَيْءٌ مِنْ حَدَثِهَا , بَلْ تَسْتَبِيحُ الصَّلَاةَ بِهَذِهِ الطَّهَارَةِ مَعَ وُجُودِ الْحَدَثِ , كَالْمُتَيَمِّمِ , فَإِنَّهُ مُحْدِثٌ عِنْدَنَا. وَالثَّانِي: يَرْتَفِعُ حَدَثُهَا السَّابِقُ وَالْمُقَارِنُ لِلطَّهَارَةِ دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ.

وَالثَّالِثُ: يَرْتَفِعُ الْمَاضِي وَحْدَهُ. انتهى كلام النووي


(١) (س) ٣٥٨ , (د) ٢٨٠ , (جة) ٦٢٠ , (حم) ٢٧٤٠٠
(٢) (خ) ٢٢٦ , (م) ٦٢ - (٣٣٣)
(٣) (س) ٢١١ , (د) ٢٨٠ , (جة) ٦٢٠ , (حم) ٢٧٤٠٠ ,
وقال النسائي: وهَذَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ حَيْضٌ.
(٤) (س) ٢١٦
(٥) (خ) ٣٠٠ , (س) ٢١٨ , (د) ٢٨٢ , (م) ٦٢ - (٣٣٣) , (ت) ١٢٥
(٦) (خ) ٣١٩ , (س) ٣٥٧
(٧) (خ) ٣٠٠ , (س) ٢١٨ , (د) ٢٨٢ , (م) ٦٢ - (٣٣٣) , (ت) ١٢٥
(٨) (س) ٢١٨
(٩) وَهَذَا الِاخْتِلَافُ وَاقِعٌ بَيْنَ أَصْحَابِ هِشَامٍ , مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ غَسْلَ الدَّمِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاغْتِسَالَ , وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ الِاغْتِسَال وَلم يذكر غَسْلَ الدَّم , وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ , وَأَحَادِيثُهُمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ , فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ اخْتَصَرَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ , لِوُضُوحِهِ عِنْدَهُ. فتح٣٠٦
(١٠) (خ) ٣١٩ , (س) ٣٥٧
(١١) (خ) ٢٢٦ , (د) ٢٩٨ , (جة) ٦٢٤، انظر الإرواء: ١٠٩ , ١١٠
(١٢) (س) ٢١١ , (د) ٢٨٠ , (جة) ٦٢٠، انظر صَحِيح الْجَامِع: ٢٣٦٣ , صحيح سنن أبي داود (٢٧٢)، الإرواء (٢١١٩)
(١٣) كشاف القناع عن متن الإقناع ١/ ٢١٦، والمغني ١/ ٣٤١.
(١٤) (الاختيار لتعليل المختار , ط دار الكتب العلمية) ١/ ٢٩.