الْبَابُ الثَّالِث: شُرُوطُ وُجُوبِ الطَّهَارَة
مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ الْإِسْلَام
قال ابن عثيمين: ١ - قال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ} [التوبة: ٥٤]، فإذا كانت النفقات مع كون نفعها متعدياً لا تقبل منهم، فالعبادات التي نفعها غير متعدٍ من باب أولى لا تقبل منهم.
٢ ـ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن: «ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة»، فجعل فرض الصلوات بعد الشهادتين.
فإن قال قائل: إذا كان من شرط وجوب الجمعة الإسلام، فهل يسلَم الكافر من الإثم؛ لأن الجمعة غير واجبة عليه؟
فالجواب: أنه لا يسلَم من الإثم؛ لأن القول الراجح من أقوال أهل العلم أن الكافر مخاطب بفروع الإسلام، كما هو مخاطب بأصوله، والدليل على ذلك قوله تعالى: {إِلَاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ *فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ *عَنِ الْمُجْرِمِينَ *مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ *قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ *} [المدثر]، ووجه الدلالة من الآية: أنهم ذَكروا من أسباب دخولهم النار أنهم لم يكونوا من المصلين، ولا من المطعمين للمسكين، بل أقول: إن الكافر معاقَبٌ على أكله وشربه ولباسه، لكنه ليس حراماً عليه بحيث يُمنع منه , إنما هو معاقَب عليه. الشرح الممتع على زاد المستقنع - (٥/ ٩)
ودليل ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: ٩٣]، فقوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} يدل بمفهومه على أن غيرهم عليهم جناح فيما طعموا، والطعام يشمل الأكل والشرب؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: ٢٤٩]، ودليل اللباس قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: ٣٢]، فقوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يفهم منه أنها ليست للذين كفروا، وقوله: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يفهم منه أنها لغير المؤمنين ليست خالصة لهم، بل يعاقبون عليها.
والمعنى يقتضي ما دلت عليه النصوص من معاقبة الكافر على الأكل والشرب واللباس والنعمة والصحة، وكل شيء؛ وذلك لأن العقل يقتضي طاعة من أحسن إليك، وأنك إذا بارزته بالمعصية وهو يحسن إليك، فإن هذا خلاف الأدب والمروءة، وبه تستحق العقوبة، فصارت النصوص مؤيدة لما يقتضيه العقل.
قال ابن حزم: لَوْ اغْتَسَلَ الْكَافِرُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ , وَالْمَجْنُونُ قَبْلَ أَنْ يُفِيقَ , أَوْ غُسِّلَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُفِيقَ وَالسَّكْرَانُ لَمْ يُجْزِهِمْ ذَلِكَ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ , وَعَلَيْهِمْ إعَادَةُ الْغُسْلِ , لِأَنَّهُمْ بِخُرُوجِ الْجَنَابَةِ مِنْهُمْ صَارُوا جُنُبًا وَوَجَبَ الْغُسْلُ بِهِ , وَلَا يَجْزِي الْفَرْضَ الْمَأمُورَ بِهِ إلَّا بِنِيَّةِ أَدَائِهِ قَصْدًا إلَى تَأدِيَةِ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ , قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}.
وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَضَّئُوا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ لِلْحَدَثِ لَمْ يُجْزِهِمْ , وَلَا بُدَّ مِنْ إعَادَتِهِ بَعْدَ زَوَالِهَا لِمَا ذَكَرْنَا. المحلى (٢/ ٥)
وقال الشيخ زكريا الأنصاري: فَلَا يَصِحُّ الْغُسْلُ مِنْ الْكَافِرِ , كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ , بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ (كَالْوُضُوْء) فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ زَوَالُ الْخَبَثِ وَالْإِسْلَامُ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْأَوَّلِ , (لَا فِي اغْتِسَالِ ذَاتِ كُفْرٍ) يَعْنِي كِتَابِيَّةً كَمَا قَدَّمَهُ أَوَّلَ الْكِتَابِ (عَنْ دَمِ) حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ (لِمُسْلِمٍ) أَيْ: لِحِلِّ وَطْءِ مُسْلِمٍ مِنْ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ , فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِسْلَامُ لِلضَّرُورَةِ.
ويَجِبُ عَلَى الْكِتَابِيَّةِ إذَا أَسْلَمَتْ إعَادَةُ الْغُسْلِ لِمَا مَرَّ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ غُسْلِ الْكَافِرِ , وَإِنَّمَا صَحَّ مِنْهَا فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ لَا فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى , وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ فَأَدَّاهَا؛ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يَلْزَمُهُ إعَادَتُهَا.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ , وَخَبَرُ مُسْلِمٍ: {الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ} فَالْمُرَادُ بِهِمَا غُفْرَانُ الذُّنُوبِ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ قَوَدٍ بِإِسْلَامِهِ.
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: وَفَارَقَ ذَلِكَ عَدَمَ إيجَابِ قَضَاءِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِأَنَّ إيجَابَ الْغُسْلِ عَلَيْهِ لَيْسَ مُؤَاخَذَةً بِالْوَاقِعِ فِي الْكُفْرِ , بَلْ بِالْحَاصِلِ فِي الْإِسْلَامِ , وَهُوَ كَوْنُهُ جُنُبًا إذَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ بِالْإِسْلَامِ بِخِلَافِهِمَا , وَبِأَنَّهُمَا يَكْثُرَانِ فَيَشُقُّ قَضَاؤُهُمَا وَيُنَفَّرُ عَنْ الْإِسْلَامِ , بِخِلَافِ الْغُسْلِ , فَإِنَّهُ وَاحِدٌ وَإِنْ كَثُرَتْ الْجَنَابَةُ. شرح البهجة الوردية (٢/ ١١٤)