للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(حم) , عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - أَنَّهُ (سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: " إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ " , فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ؟ , فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ , وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ , وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ (١) فَقَالَ: " لَا , هُوَ حَرَامٌ " , ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ , إِنَّ اللهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الشُّحُومَ , جَمَلُوهَا (٢) ثُمَّ بَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا) (٣) (وَإِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ شَيْئًا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ ") (٤)

الشَّرْح:

(عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ) فِيهِ بَيَانُ تَارِيخِ ذَلِكَ; وَكَانَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ, وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ وَقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَعَادَهُ - صلى الله عليه وسلم - لِيَسْمَعَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهُ. فتح٢٢٣٦

(إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ) هَكَذَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى ضَمِيرِ الْوَاحِدِ وَكَانَ الْأَصْلُ ... "حَرَّمَا" فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - تَأَدَّبَ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْمِ اللَّهِ فِي ضَمِيرِ الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ مَا رَدَّ بِهِ عَلَى الْخَطِيبِ الَّذِي قَالَ: "وَمَنْ يَعْصِهِمَا" كَذَا قَالَ, وَلَمْ تَتَّفِقِ الرُّوَاةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فِي الصَّحِيحِ: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ" لَيْسَ فِيهِ "وَرَسُولَهُ" وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَرْدَوْيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ اللَّيْثِ: "إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَا" وَقَدْ صَحَّ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ: "إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ" وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ "يَنْهَاكُمْ" وَالتَّحْقِيقُ جَوَازُ الْإِفْرَادِ فِي مِثْلِ هَذَا, وَوَجْهُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ نَاشِئٌ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ, وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} وَالْمُخْتَارُ فِي هَذَا أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى حُذِفَتْ لِدَلَالَةِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ, وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ. فتح٢٢٣٦

بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ) نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ, وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ. فتح٢٢٣٦

(وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ) أَيْ: وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ. تحفة١٢٩٧

الْأَصْنَامُ: جَمْعُ صَنَمٍ , قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ الْوَثَنُ, وَفَرَّقَ بَيْنهمَا فِي النِّهَايَة فَقَالَ الْوَثَن كُلّ مَا لَهُ جُثَّة مَعْمُولَة مِنْ جَوَاهِر الْأَرْض أَوْ مِنْ الْخَشَب أَوْ مِنْ الْحِجَارَة كَصُورَةِ الْآدَمِيّ تُعْمَل وَتُنْصَب فَتُعْبَد، وَالصَّنَم الصُّورَة بِلَا جُثَّة. قَالَ: وَقَدْ يُطْلَق الْوَثَن عَلَى غَيْر الصُّورَة. عون٣٤٨٦

قلت: قد قال {إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام: ٧٤]

وقال {لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: ٥٢]

وقال تعالى {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: ٥٨]

فدلت هذه الآيات على أن الصنم: تمثال وله جثة. ع

(فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ؟ , فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ , وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ ,

(وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ) أَيْ: يَجْعَلُونَهَا فِي سُرُجِهمْ وَمَصَابِيحهمْ يَسْتَضِيئُونَ بِهَا , أَيْ فَهَل يَحِلّ بَيْعهَا لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَنَافِع , فَإِنَّهَا مُقْتَضِيَة لِصِحَّةِ الْبَيْع. عون٣٤٨٦

أَيْ: فَهَلْ يَحِلُّ بَيْعُهَا لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْمَنَافِعِ فَإِنَّهَا مُقْتَضِيَةٌ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ. فتح٢٢٣٦

(فَقَالَ: " لَا , هُوَ حَرَامٌ ") أَيِ: الْبَيْعُ, هَكَذَا فَسَّرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَمَنِ اتَّبَعَهُ, وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: "وَهُوَ حَرَامٌ" عَلَى الِانْتِفَاعِ فَقَالَ: يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ, فَلَا يُنْتَفَعُ مِنَ الْمَيْتَةِ أَصْلًا عِنْدَهُمْ إِلَّا مَا خُصَّ بِالدَّلِيلِ وَهُوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ, وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَتَنَجَّسُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ الْخَطَّابِيُّ عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَتْ لَهُ دَابَّةٌ سَاغَ لَهُ إِطْعَامُهَا لِكِلَابِ الصَّيْدِ فَكَذَلِكَ يَسُوغُ دَهْنُ السَّفِينَةِ بِشَحْمِ الْمَيْتَةِ وَلَا فَرْقَ. فتح٢٢٣٦

(ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ) أَيْ: أَهْلَكَهُمْ وَلَعَنَهُمْ , إِخْبَارٌ أَوْ دُعَاءٌ. تحفة١٢٩٧

(إِنَّ اللهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الشُّحُومَ) أَيْ: شُحُومَ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا}.تحفة١٢٩٧

(جَمَلُوهَا) جَمَلَ الشحمَ: أذابه وأخرج ما به من دهن.

قَالَ الْخَطَّابِيّ أَيْ: أَذَابُوهَا حَتَّى تَصِير وَدِكًا , فَيَزُول عَنْهَا اِسْم الشَّحْم. عون٣٤٨٦

ثُمَّ بَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا)

(وَإِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ شَيْئًا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ ") سِيَاقُهُ مُشْعِرٌ بِقُوَّةِ مَا أَوَّلَهُ الْأَكْثَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ "هُوَ حَرَامٌ" الْبَيْعُ لَا الِانْتِفَاعُ. فتح٢٢٣٦

قَالَ النووي: قَالَ أَصْحَابنَا: الْعِلَّة فِي مَنْع بَيْع الْمَيْتَة وَالْخَمْر وَالْخِنْزِير النَّجَاسَة، فَيَتَعَدَّى إِلَى كُلّ نَجَاسَة، وَالْعِلَّة فِي الْأَصْنَام كَوْنهَا لَيْسَ فِيهَا مَنْفَعَة مُبَاحَة، فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ إِذَا كُسِرَتْ يُنْتَفَع بِرُضَاضِهَا فَفِي صِحَّة بَيْعهَا خِلَاف مَشْهُور لِأَصْحَابِنَا؛ مِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ لِظَاهِرِ النَّهْي وَإِطْلَاقه، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ اِعْتِمَادًا عَلَى الِانْتِفَاع، وَتَأَوَّلَ الْحَدِيث عَلَى مَا لَمْ يَنْتَفِع بِرُضَاضِهِ، أَوْ عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه فِي الْأَصْنَام خَاصَّة. وَأَمَّا الْمَيْتَة وَالْخَمْر وَالْخِنْزِير: فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيم بَيْع كُلّ وَاحِد مِنْهَا. وَاَللَّه أَعْلَم. النووي (٧١ - (١٥٨١)

فَوائِدُ الْحَدِيث:

(إِنَّ اللَّه حَرَّمَ بَيْع الْخَمْر): الْعِلَّة فِيهِ السُّكْر , فَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى كُلّ مُسْكِر. عون٣٤٨٦

قَالَ الْعُلَمَاء: وَفِي عُمُوم تَحْرِيم بَيْع الْمَيْتَة أَنَّهُ يَحْرُم بَيْع جُثَّة الْكَافِر إِذَا قَتَلْنَاهُ، وَطَلَب الْكُفَّار شِرَاءَهُ، أَوْ دَفْع عِوَض عَنْهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث: أَنَّ نَوْفَل بْن عَبْد اللَّه الْمَخْزُومِيّ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْم الْخَنْدَق، فَبَذَلَ الْكُفَّار فِي جَسَده عَشْرَة آلَاف دِرْهَم لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَأخُذهَا، وَدَفَعَهُ إِلَيْهِمْ، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيّ حَدِيثًا نَحْو هَذَا.

قَالَ الْقَاضِي: تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيث أَنَّ مَا لَا يَحِلّ أَكْله وَالِانْتِفَاع بِهِ لَا يَجُوز بَيْعه، وَلَا يَحِلّ أَكْل ثَمَنه، كَمَا فِي الشُّحُوم الْمَذْكُورَة فِي الْحَدِيث، فَاعْتَرَضَ بَعْض الْيَهُود وَالْمَلَاحِدَة بِأَنَّ الِابْن إِذَا وَرِثَ مِنْ أَبِيهِ جَارِيَة كَانَ الْأَب وَطِئَهَا فَإِنَّهَا تَحْرُم عَلَى الِابْن، وَيَحِلّ لَهُ بَيْعهَا بِالْإِجْمَاعِ وَأَكْل ثَمَنهَا، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا تَمْوِيه عَلَى مَنْ لَا عِلْم عِنْده؛ لِأَنَّ جَارِيَة الْأَب لَمْ يَحْرُم عَلَى الِابْن مِنْهَا غَيْر الِاسْتِمْتَاع عَلَى هَذَا الْوَلَد دُون غَيْره مِنْ النَّاس، وَيَحِلّ لِهَذَا الِابْن الِانْتِفَاع بِهَا فِي جَمِيع الْأَشْيَاء سِوَى الِاسْتِمْتَاع، وَيَحِلّ لِغَيْرِهِ الِاسْتِمْتَاع وَغَيْره، بِخِلَافِ الشُّحُوم فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة، الْمَقْصُود مِنْهَا، وَهُوَ الْأَكْل مِنْهَا عَلَى جَمِيع الْيَهُود، وَكَذَلِكَ شُحُوم الْمَيْتَة مُحَرَّمَة الْأَكْل عَلَى كُلّ أَحَد، وَكَانَ مَا عَدَا الْأَكْل تَابِعًا لَهُ، بِخِلَافِ مَوْطُوءَة الْأَب. وَاَللَّه أَعْلَم. النووي (٧١ - (١٥٨١)

قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ كُلِّ حِيلَةٍ تُحْتَالُ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى مُحَرَّمٍ وَأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ بِتَغَيُّرِ هَيْئَتِهِ وَتَبْدِيلِ اِسْمِهِ. تحفة١٢٩٧

وفيه دليل أن من احتال في استعمال الأشياء المحرمة كان ملعونا , لكونه سلك مسلك اليهود الذين لعنهم الله تعالى , لانتهاكهم ما حرم الله تعالى بالاحتيال. ذخيرة٤٢٥٦

قوله: (وَإِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ شَيْئًا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ) فيه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا , سيما أنه استدل بعد قوله هذه الجملة بما أُمِر به اليهود من تحريم الشحوم , وكيف أنهم انتفعوا بأثمانها , فذكر الأمم السابقة بعد ذكر الحكم , وتعميم قوله تعالى (وَإِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ شَيْئًا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ) يدل على ما أشرنا إليه. ع

مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَة:

شَحْمُ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى حَلالٌ مِنْ أَيِّ مَكَانٍ أُخِذَ.

وَأَمَّا الْحَيَوَانَاتُ غَيْرُ الْمَأكُولَةِ كَالْخِنْزِيرِ فَشَحْمُهَا حَرَامٌ كَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ أَكْلُ شُحُومِ الْمَيْتَةِ فَلا تُؤَثِّرُ التَّذْكِيَةُ فِيهِ.

أَمَّا الانْتِفَاعُ بِشَحْمِ الْمَيْتَةِ فِي غَيْرِ الأَكْلِ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِهِ فِي شَيْءٍ أَصْلا، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ فِي غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِلأَدِلَّةِ التَّالِيَةِ:

أَوَّلا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَمَّا سُئِلَ عَنْ الانْتِفَاعِ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ بِاسْتِصْبَاحٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: لا، هُوَ حَرَامٌ ".

ثَانِيًا: وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ ".

ثَالِثًا: وَلأَنَّهُ مَظِنَّةُ التَّلَوُّثِ بِهِ، وَلِكَرَاهَةِ دُخَانِ النَّجَاسَةِ. (٥)

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ جَوَازَ الانْتِفَاعِ بِشَحْمِ الْمَيْتَةِ فِي طَلْيِ السُّفُنِ وَالاسْتِصْبَاحِ بِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِأَكْلٍ وَلا فِي بَدَنِ الآدَمِيِّ. وَبِهَذَا قَالَ أَيْضًا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (٦) وَرَأَوْا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي " هُوَ حَرَامٌ " يَرْجِعُ إِلَى الْبَيْعِ لا إِلَى مُطْلَقِ الانْتِفَاعِ.

قال النووي: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا هُوَ حَرَام) فَمَعْنَاهُ: لَا تَبِيعُوهَا فَإِنَّ بَيْعهَا حَرَام، وَالضَّمِير فِي (هُوَ) يَعُود إِلَى الْبَيْع، لَا إِلَى الِانْتِفَاع، هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه أَنَّهُ يَجُوز الِانْتِفَاع بِشَحْمِ الْمَيْتَة فِي طَلْي السُّفُن وَالِاسْتِصْبَاح بِهَا، وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِأَكْلٍ وَلَا فِي بَدَن الْآدَمِيّ، وَبِهَذَا قَالَ أَيْضًا عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَمُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيّ.

وَأَمَّا الزَّيْت وَالسَّمْن وَنَحْوهمَا مِنْ الْأَدْهَان الَّتِي أَصَابَتْهَا نَجَاسَة فَهَلْ يَجُوز الِاسْتِصْبَاح بِهَا وَنَحْوه مِنْ الِاسْتِعْمَال فِي غَيْر الْأَكْل وَغَيْر الْبَدَن، أَوْ يَجْعَل مِنْ الزَّيْت صَابُونًا أَوْ يُطْعِم الْعَسَل الْمُتَنَجِّس لِلنَّحْلِ، أَوْ يُطْعِم الْمَيْتَة لِكِلَابِهِ، أَوْ يُطْعِم الطَّعَام النَّجِس لِدَوَابِّهِ فِيهِ خِلَاف بَيْن السَّلَف، الصَّحِيح مِنْ مَذْهَبنَا: جَوَاز جَمِيع ذَلِكَ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ مَالِك وَكَثِير مِنْ الصَّحَابَة وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْرِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَاللَّيْث بْن سَعْد، قَالَ: وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ عَلِيّ وَابْن عُمَر وَأَبِي مُوسَى وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَسَالِم بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر، قَالَ: وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَاللَّيْث وَغَيْرهمْ بَيْع الزَّيْت النَّجِس إِذَا بَيَّنَهُ. النووي (٧١ - (١٥٨١)


(١) أَيْ: يَجْعَلُونَهَا فِي سُرُجِهمْ وَمَصَابِيحهمْ يَسْتَضِيئُونَ بِهَا , أَيْ فَهَل يَحِلّ بَيْعهَا لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَنَافِع , فَإِنَّهَا مُقْتَضِيَة لِصِحَّةِ الْبَيْع. عون المعبود - (ج ٧ / ص ٤٨٠)
(٢) جَمَلَ الشحمَ: أذابه وأخرج ما به من دهن.
(٣) (حم) ١٤٥١٢ , (خ) ٢١٢١ , (م) ٧١ - (١٥٨١) , (ت) ١٢٩٧
(٤) (حم) ٢٩٦٤ , (حب) ٤٩٣٨، انظر التعليقات الحسان: ٤٩١٧ , غاية المرام: ٣١٨ , وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.
(٥) صحيح مسلم بشرح النووي ١١/ ٦ , والمغني ٨/ ٦١٠ , وابن عابدين ٤/ ١١٤، والحطاب ١/ ١٢٠.
وانظر أيضا: حاشية ابن عابدين ١/ ٢٢٠، والحطاب ١/ ١١٧ ـ ١١٩، وإعلام الساجد للزركشي ص ٣٦١، والقواعد لابن رجب ص ١٩٢
(٦) صحيح مسلم بشرح النووي ١٢/ ٦ , وأسنى المطالب ١/ ٢٧٨.