للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(عب) , وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: نَحَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - جَزُورًا فَتَلَطَّخَ بِدَمِهَا وَفَرْثِهَا، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَلَاةُ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأ. (١)

مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَة:

ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَجَاسَةِ الدَّمِ، لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا تَحِيضُ فِي الثَّوْبِ كَيْفَ تَصْنَعُ؟ قَالَ: " تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ وَتَنْضَحُهُ وَتُصَلِّي فِيهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " إِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنَ الْمَنِيِّ وَالْبَوْلِ وَالدَّمِ " وَكَذَلِكَ الْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ لأَنَّهُمَا مِثْلُهُ.

وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ دَمَ الشَّهِيدِ عَلَيْهِ فَقَالُوا بِطَهَارَتِهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَتْلَى أُحُدٍ: " زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي اللَّهِ إِلا يَأتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى، لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ ". فَإِنِ انْفَصَلَ الدَّمُ عَنِ الشَّهِيدِ كَانَ الدَّمُ نَجِسًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ دَمِ الإِنْسَانِ الَّذِي لا يَسِيلُ عَنْ رَأسِ جُرْحِهِ، وَيُعْفَى أَيْضًا عَنْ دَمِ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ لأَنَّهُ لا يُمْكِنُ الاحْتِرَازُ عَنْهُ وَفِيهِ حَرَجٌ. (٢)

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَمَّا دُونَ الدِّرْهَمِ مِنَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ إِذَا انْفَصَلَ عَنِ الْحَيَوَانِ. (٣)

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ فِي الْعُرْفِ مِنَ الدَّمِ وَالْقَيْحِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَفْسِهِ كَأَنِ انْفَصَلَ مِنْهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ أَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ، إِلا دَمَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَفَرْعَ أَحَدِهِمَا فَلا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ لِغِلَظِ نَجَاسَتِهِ، وَأَمَّا دَمُ الشَّخْصِ نَفْسِهِ الَّذِي لَمْ يَنْفَصِلْ مِنْهُ كَدَمِ الدَّمَامِيلِ وَالْقُرُوحِ وَمَوْضِعِ الْفَصْدِ فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، انْتَشَرَ بِعَرَقٍ أَمْ لا.

وَيُعْفَى عَنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَالْقَمْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَيَشُقُّ الاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَمَحَلُّ الْعَفْوِ عَنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ مَا لَمْ يَخْتَلِطْ بِأَجْنَبِيٍّ، فَإِنِ اخْتَلَطَتْ بِهِ كَأَنْ خَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ دَمٌ أَوْ دَمِيَتْ لِثَتُهُ لَمْ يُعْفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ.

وَأَمَّا مَا لا يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ مِنَ النَّجَاسَاتِ فَيُعْفَى عَنْهُ وَلَوْ مِنَ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ لِمَشَقَّةِ الاحْتِرَازِ عَنْهُ. (٤)

قَال النَّوَوِيُّ (١١٠ - ٢٩١): وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ النَّجَاسَة عَيْنِيَّة كَالدَّمِ وَغَيْره فَلَا بُدّ مِنْ إِزَالَة عَيْنهَا وَيُسْتَحَبّ غَسْلهَا بَعْد زَوَال الْعَيْن ثَانِيَة وَثَالِثَة.

وَهَلْ يُشْتَرَط عَصْر الثَّوْب إِذَا غَسَلَهُ؟

فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَصَحّ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَط.

وَإِذَا غَسَلَ النَّجَاسَة الْعَيْنِيَّة فَبَقِيَ لَوْنهَا لَمْ يَضُرّهُ , بَلْ قَدْ حَصَلَتْ الطَّهَارَة.

وَإِنْ بَقِيَ طَعْمهَا فَالثَّوْب نَجِسٌ , فَلَا بُدّ مِنْ إِزَالَة الطَّعْم.

وَإِنْ بَقِيَتْ الرَّائِحَة , فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ , أَفْصَحهمَا: يَطْهُر.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمٍ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مِنْ قَيْحٍ وَصَدِيدٍ فِي غَيْرِ مَائِعٍ وَمَطْعُومٍ، أَيْ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ فِي الصَّلاةِ، لأَنَّ الإِنْسَانَ غَالِبًا لا يَسْلَمُ مِنْهُ وَيَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَقَدْرُ الْيَسِيرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ هُوَ مَا لا يَفْحُشُ فِي النَّفْسِ، وَالْمَعْفُوُّ عَنْهُ مِنَ الْقَيْحِ وَنَحْوِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يُعْفَى عَنْ مِثْلِهِ مِنَ الدَّمِ، وَالْمَعْفُوُّ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ خَارِجًا مِنْ غَيْرِ سَبِيلٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ سَبِيلٍ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ، وَلا يُعْفَى عَنِ الدَّمِ الْخَارِجِ مِنْ حَيَوَانٍ نَجِسٍ كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَيُضَمُّ مُتَفَرِّقٌ فِي ثَوْبٍ مِنْ دَمٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ فَحُشَ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ، وَيُعْفَى عَنْ دَمِ بَقٍّ وَقَمْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا لا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً. (٥)

مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَة:

بِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ فِي مَسَائِلِ الْمَعْفُوَّاتِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَفْوَ عِنْدَهُمْ يَدْخُلُ عَلَى أَنْوَاعِ النَّجَاسَاتِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُخَفَّفَةِ وَالْمُغَلَّظَةِ وَوَضَعُوا لِكُلِّ نَوْعٍ تَقْدِيرَاتٍ وَضَوَابِطَ. فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا تَوَافَقَتْ عَلَى نَجَاسَتِهِ الأَدِلَّةُ فَمُغَلَّظٌ سَوَاءٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَكَانَ فِيهِ بَلْوَى أَمْ لا وَإِلا فَهُوَ مُخَفَّفٌ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمِّدٌ: مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَلْوَى فَمُغَلَّظٌ , وَإِلا مُخَفَّفٌ وَلا نَظَرَ لِلأَدِلَّةِ. (٦)

- أَمَّا النَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ فَقَدْ عُفِيَ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْهَا، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِيهِ: وَالصَّحِيحُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِالْوَزْنِ فِي النَّجَاسَةِ الْمُتَجَسِّدَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَزْنُهُ قَدْرَ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ الْمِثْقَالِ (٧) وَبِالْمِسَاحَةِ فِي غَيْرِهَا وَهُوَ قَدْرُ مُقَعَّرِ الْكَفِّ دَاخِلَ مَفَاصِلِ الأَصَابِعِ (٨)

وَقَالَ مُنْلا مِسْكِينْ: وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ أَنْ تَغْرِفَ بِالْيَدِ ثُمَّ تَبْسُطَ فَمَا بَقِيَ مِنَ الْمَاءِ فَهُوَ مِقْدَارُ الْكَفِّ. (٩)

وَالْمُرَادُ بِالْعَفْوِ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ هُوَ الْعَفْوُ عَنْ فَسَادِ الصَّلاةِ بِهِ , وَإِلا فَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ بَاقِيَةٌ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ بَلَغَتِ النَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ الدِّرْهَمَ، وَتَنْزِيهًا إِنْ لَمْ تَبْلُغْ. وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ مَا لَوْ عَلِمَ قَلِيلَ نَجَاسَةٍ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلاةِ فَفِي الدِّرْهَمِ يَجِبُ قَطْعُ الصَّلاةِ وَغَسْلُهَا وَلَوْ خَافَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ لأَنَّهَا سُنَّةٌ وَغَسْلُ النَّجَاسَةِ وَاجِبٌ وَهُوَ مُقَدَّمٌ،

وَفِي الثَّانِي (أَيْ فِي أَقَلَّ مِنَ الدِّرْهَمِ) يَكُونُ ذَلِكَ أَفْضَلَ فَقَطْ مَا لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ بِأَنْ لا يُدْرِكَ جَمَاعَةً أُخْرَى وَإِلا مَضَى عَلَى صَلاتِهِ لأَنَّ الْجَمَاعَةَ أَقْوَى، كَمَا يَمْضِي فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ إِذَا خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ لأَنَّ التَّفْوِيتَ حَرَامٌ وَلا مَهْرَبَ مِنَ الْكَرَاهَةِ إِلَى الْحَرَامِ. (١٠)

قَالَ الْحَمَوِيُّ: وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ وَقْتُ الإِصَابَةِ فَلَوْ كَانَ دُهْنًا نَجِسًا قَدْرَ الدِّرْهَمِ وَقْتَ الإِصَابَةِ فَانْبَسَطَ فَصَارَ أَكْثَرَ مِنْهُ لا يُمْنَعُ فِي اخْتِيَارِ الْمَرْغِينَانِيِّ وَغَيْرِهِ، وَمُخْتَارُ غَيْرِهِمُ الْمَنْعُ، وَلَوْ صَلَّى قَبْلَ انْبِسَاطِهِ جَازَتْ وَبَعْدَهُ لا، وَبَهْ أَخَذَ الأَكْثَرُونَ. (١١)

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لا يُعْفَى عَنِ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ إِذَا زَادَتْ عَلَى الدِّرْهَمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الإِزَالَةِ (١٢) وَعُفِيَ عَنِ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ عَمَّا دُونَ رُبْعِ الثَّوْبِ (١٣) لأَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهَا بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ وَلِلرُّبُعِ حُكْمُ الْكُلِّ فِي الأَحْكَامِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمِّدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ - كَمَا قَالَهُ الزَّيْلَعِيُّ - ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ اعْتِبَارِ الرُّبُعِ: فَقِيلَ رُبُعُ جَمِيعِ ثَوْبٍ عَلَيْهِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رُبُعُ أَدُنَى ثَوْبٍ تَجُوزُ فِيهِ الصَّلاةُ كَالْمِئْزَرِ، وَقِيلَ رُبُعُ طَرَفٍ أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ كَالذَّيْلِ وَالْكُمِّ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ شِبْرٌ فِي شِبْرٍ وَعَنْهُ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ وَمِثْلُهُ عَنْ مُحَمِّدٍ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمِّدٍ أَنَّ الْكَثِيرَ الْفَاحِشَ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الْقَدَمَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُحَدَّ لِذَلِكَ حَدًّا وَقَالَ: إِنَّ الْفَاحِشَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ طِبَاعِ النَّاسِ فَوَقَفَ الأَمْرُ فِيهِ عَلَى الْعَادَةِ كَمَا هُوَ دَأبُهُ. (١٤)

وَقَالَ الشَّلَبِيُّ نَقْلا عَنْ زَادِ الْفَقِيرِ: وَالأَوْجَهُ اتِّكَالُهُ إِلَى رَأيِ الْمُبْتَلَى إِنِ اسْتَفْحَشَهُ مَنَعَ وَإِلا فَلا. (١٥)

وَقَالُوا: إِنَّمَا قُسِّمَتِ النَّجَاسَاتُ إِلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ بِاعْتِبَارِ قِلَّةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ الْغَلِيظَةِ وَكَثْرَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ الْخَفِيفَةِ وَلا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي كَيْفِيَّةِ التَّطْهِيرِ وَإِصَابَةِ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ لأَنَّهُ لا يَخْتَلِفُ تَنَجُّسُهَا بِهِمَا. (١٦)

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمَائِعَ مَتَى أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ خَفِيفَةٌ أَوْ غَلِيظَةٌ وَإِنْ قَلَّتْ تَنَجَّسَ وَلا يُعْتَبَرُ فِيهِ رُبُعٌ وَلا دِرْهَمٌ، نَعَمْ تَظْهَرُ الْخِفَّةُ فِيمَا إِذَا أَصَابَ هَذَا الْمَائِعُ ثَوْبًا أَوْ بَدَنًا فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الرُّبُعُ. (١٧)

وَقَالَ أَيْضًا: إِنِ اخْتَلَطَتِ الْغَلِيظَةُ وَالْخَفِيفَةُ تُرَجَّحُ الْغَلِيظَةُ مُطْلَقًا وَإِلا فَإِنْ تَسَاوَيَا أَوْ زَادَتِ الْغَلِيظَةُ فَكَذَلِكَ وَإِلا تُرَجَّحُ الْخَفِيفَةُ. (١٨)

ثَانِيًا: مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ

قَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ النَّجَاسَاتِ مِنْ حَيْثُ حُكْمُ إِزَالَتِهَا إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

الْقِسْمُ الأَوَّلُ: يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَلا تَجِبُ إِزَالَتُهُ إِلا أَنْ يَتَفَاحَشَ جِدًّا فَيُؤْمَرُ بِهَا. وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ كُلُّ نَجَاسَةٍ لا يُمْكِنُ الاحْتِرَازُ عَنْهَا، أَوْ يُمْكِنُ بِمَشَقَّةٍ كَثِيرَةٍ كَالْجُرْحِ يَمْصُلُ، وَالدُّمَّلِ يَسِيلُ، وَالْمَرْأَةِ تُرْضِعُ، وَالأَحْدَاثِ تُسْتَنْكَحُ، وَالْغَازِي يَفْتَقِرُ إِلَى إِمْسَاكِ فَرَسِهِ. قَالَ ابْنُ شَاسٍ: وَخَصَّ مَالِكٌ هَذَا بِبَلَدِ الْحَرْبِ، وَتَرَجَّحَ فِي بَلَدِ الإِسْلامِ. (١٩)

الْقِسْمُ الثَّانِي: يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ مِنْهُ إِذَا رَآهُ فِي الصَّلاةِ وَيُؤْمَرُ بِغَسْلِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا، وَقِيلَ: لا يُؤْمَرُ بِذَلِكَ، وَهُوَ الدَّمُ، وَهَلْ يَلْحَقُ بِهِ فِي الْعَفْوِ قَلِيلُ الْقَيْحِ وَقَلِيلُ الصَّدِيدِ؟ أَوْ يَلْحَقَانِ بِقَلِيلِ الْبَوْلِ؟ فِي ذَلِكَ قَوْلانِ.

وَأَمَّا حَدُّ الْيَسِيرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ قَالَ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَابِقٍ: لا خِلافَ عِنْدَنَا أَنَّ فَوْقَ الدِّرْهَمِ كَثِيرٌ، وَأَنَّ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ قَلِيلٌ، وَفِي قَدْرِ الدِّرْهَمِ رِوَايَتَانِ لِعَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ وَابْنِ حَبِيبٍ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ.

وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو الطَّاهِرِ أَنَّ الْيَسِيرَ هُوَ مِقْدَارُ الْخِنْصِرِ وَأَنَّ الْخِلافَ فِيمَا بَيْنَ الدِّرْهَمِ إِلَى الْخِنْصِرِ. (٢٠)

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: يُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ دُونَ عَيْنِهِ.

وَهُوَ الأَحْدَاثُ عَلَى الْمَخْرَجَيْنِ، وَالدَّمُ عَلَى السَّيْفِ الصَّقِيلِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ الْخُفُّ يُمْشَى بِهِ عَلَى أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا. وَفِيهِ قَوْلٌ:

إِنَّهُ يُغْسَلُ كَمَا لَوْ مُشِيَ بِهِ عَلَى الدَّمِ وَالْعَذِرَةِ. (٢١)

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا عَدَا مَا ذُكِرَ، وَهَذَا الْقِسْمُ يُزَالُ كَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ، وَعَيْنُهُ وَأَثَرُهُ. (٢٢)

ثَالِثًا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ

قَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ النَّجَاسَاتِ الْمَعْفُوَّ عَنْهَا بِاعْتِبَارِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: مَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَهُوَ دَمُ الْبَرَاغِيثِ عَلَى الأَصَحِّ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَكَذَا دَمُ الْقُمَّلِ وَالْبَعُوضِ وَنَحْوِهِ عَلَى مَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَنَقَلَهُ عَنِ الأَكْثَرِينَ، لَكِنْ لَهُ شَرْطَانِ:

١ - أَنْ لا يَكُونَ بِفِعْلِهِ فَلَوْ كَانَ بِفِعْلِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ فَتَلَوَّثَ بِهِ أَوْ لَمْ يَلْبَسِ الثَّوْبَ بَلْ حَمَلَهُ وَكَانَ كَثِيرًا لَمْ تَصِحَّ صَلاتُهُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ وَيَلْتَحِقُ بِالْبَرَاغِيثِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ دَمُ الْبَثَرَاتِ وَقَيْحُهَا وَصَدِيدُهَا حَتَّى لَوْ عَصَرَهُ وَكَانَ الْخَارِجُ كَثِيرًا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ دَمُ الدَّمَامِيلِ وَالْقُرُوحِ وَمَوْضِعُ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ مِنْهُ.

٢ - أَنْ لا يَتَفَاحَشَ بِالإِهْمَالِ، فَإِنَّ لِلنَّاسِ عَادَةً فِي غَسْلِ الثِّيَابِ كُلَّ حِينٍ فَلَوْ تَرَكَ غَسْلَ الثَّوْبِ سَنَةً مَثَلا وَهُوَ يَتَرَاكَمُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ فِي مَحَلِّ الْعَفْوِ، قَالَهُ الإِمَامُ.

وَمِنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ الْبَلْغَمُ إِذَا كَثُرَ وَالْمَاءُ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ فَمِ النَّائِمِ إِذَا ابْتُلِيَ بِهِ وَنَحْوُهُ، وَكَذَلِكَ الْحَدَثُ الدَّائِمُ كَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَسَلَسُ الْبَوْلِ، وَكَذَا أَوَانِي الْفَخَّارِ الْمَعْمُولَةِ بِالزِّبْلِ لا تَطْهُرُ، وَقَدْ سُئِلَ الشَّافِعِيُّ بِمِصْرَ، فَقَالَ: إِذَا ضَاقَ الأَمْرُ اتَّسَعَ.

الثَّانِي: مَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ دُونَ كَثِيرِهِ، وَهُوَ دَمُ الأَجْنَبِيِّ إِذَا انْفَصَلَ عَنْهُ ثُمَّ أَصَابَهُ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ فِي الأَصَحِّ دُونَ كَثِيرِهِ قَطْعًا، وَكَذَلِكَ طِينُ الشَّوَارِعِ الْمُتَيَقَّنُ بِنَجَاسَتِهَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ دُونَ كَثِيرِهِ.

وَالْقَلِيلُ مَا يَتَعَذَّرُ الاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْمُتَغَيِّرُ بِالْمَيْتَةِ الَّتِي لا نَفْسَ لَهَا سَائِلَةً لا يُعْفَى عَنِ التَّغَيُّرِ الْكَثِيرِ فِي الأَصَحِّ.

الثَّالِثُ: مَا يُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ دُونَ عَيْنِهِ وَهُوَ أَثَرُ الْمَخْرَجَيْنِ فِي الاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ وَكَذَلِكَ بَقَاءُ رِيحِ النَّجَاسَةِ أَوْ لَوْنُهَا إِذَا عَسُرَ زَوَالُهُ.

الرَّابِعُ: مَا لا يُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ وَلا عَيْنِهِ وَلا قَلِيلِهِ وَلا كَثِيرِهِ وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ. (٢٣)

وَقَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ النَّجَاسَاتِ بِاعْتِبَارِ الْعَفْوِ عَنْهَا إِذَا حَلَّتْ فِي الْمَاءِ أَوِ الثَّوْبِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

الْقِسْمُ الأَوَّلُ: يُعْفَى عَنْهُ فِي الْمَاءِ وَالثَّوْبِ وَذَلِكَ فِي عِشْرِينَ صُورَةً:

مَا لا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، وَالْمَيْتَةُ الَّتِي لا دَمَ لَهَا كَالدُّودِ وَالْخُنْفُسَاءِ أَصْلا أَوْ لَهَا دَمٌ وَلَكِنَّهُ لا يَسِيلُ كَالْوَزَغِ، وَغُبَارُ النَّجَاسَةِ الْيَابِسَةِ، وَقَلِيلُ دُخَانِ النَّجَاسَةِ حَتَّى لَوْ أَوْقَدَ نَجَاسَةً تَحْتَ الْمَاءِ، وَاتَّصَلَ بِهِ قَلِيلُ دُخَانٍ لَمْ يَنْجُسْ، وَقَلِيلُ الشَّعْرِ، وَقَلِيلُ الرِّيشِ النَّجِسِ لَهُ حُكْمُ الشَّعْرِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلامُهُمْ إِلا أَنَّ أَجَزَاءَ الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا حُكْمُ الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْهِرَّةُ إِذَا وَلَغَتْ بَعْدَ أَكْلِهَا فَأرَةً، وَأَلْحَقَ الْمُتَوَلِّي السَّبُعَ بِالْهِرَّةِ وَخَالَفَهُ الْغَزَالِيُّ لانْتِفَاءِ الْمَشَقَّةِ لِعَدَمِ الاخْتِلاطِ، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْوَاهِ الصِّبْيَانِ مَعَ تَحَقُّقِ نَجَاسَتِهَا، خَرَّجَهُ ابْنُ الصَّلاحِ، وَأَفْوَاهُ الْمَجَانِينِ كَالصِّبْيَانِ، وَإِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ طَيْرٌ عَلَى مَنْفَذِهِ نَجَاسَةٌ يَتَعَذَّرُ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ وَلا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِانْكِمَاشِهِ فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِي الرَّوْضَةِ بِأَنَّا لَوْ تَحَقَّقْنَا وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى مَنْفَذِ الطَّيْرِ وَعَلَيْهِ ذَرْقٌ عُفِيَ عَنْهُ، وَإِذَا نَزَلَ الطَّائِرُ فِي الْمَاءِ وَغَاصَ وَذَرَقَ فِيهِ عُفِيَ عَنْهُ لا سِيَّمَا إِذَا كَانَ طَرَفُ الْمَاءِ الَّذِي لا يَنْفَكُّ عَنْهُ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا ذُكِرَ فِي السَّمَكِ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ سَمَكًا فِي حُبٍّ مَا ثُمَّ مَعْلُومٌ أَنَّهُ يَبُولُ فِيهِ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ، وَفِي تَعْلِيقِ الْبَنْدَنِيجِيِّ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ نَجَسٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لأَنَّ الاحْتِرَازَ عَنْهُ لا يُمْكِنُ، وَحَكَى الْعِجْلِيُّ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّ وُقُوعَ الْحَيَوَانِ النَّجِسِ الْمَنْفَذِ فِي الْمَاءِ يُنَجِّسُهُ، وَحُكِيَ عَنْ غَيْرِهِ عَدَمُ التَّنْجِيسِ مُسْتَدِلا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِمَقْلِ الذُّبَابِ.

وَإِذَا شَرِبَ مِنَ الْمَاءِ طَائِرٌ عَلَى فِيهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تَتَخَلَّلْ غَيْبَتُهُ فَيَنْبَغِي إِلْحَاقُهُ بِالْمَنْفَذِ لِتَعَذُّرِ صَوْنِهِ عَنْهُ، وَوَيْنَمُ الذُّبَابِ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ لا يُنَجِّسُهُ لِعُسْرِ صَوْنِهِ، وَمِثْلُهُ بَوْلُ الْخُفَّاشِ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ أَوِ الْمَائِعِ، وَغُسَالَةُ النَّجَاسَةِ إِذَا انْفَصَلَتْ غَيْرَ مُتَغَيِّرَةٍ وَلا زَائِدَةِ الْوَزْنِ فَإِنَّهَا تَكُونُ طَاهِرَةً مَعَ أَنَّهَا لاقَتْ نَجِسًا.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يُعْفَى عَنْهُ فِي الْمَاءِ دُونَ الثَّوْبِ كَالْمَيْتَةِ الَّتِي لا دَمَ لَهَا سَائِلٌ وَخَرْءِ السَّمَكِ وَمَنْفَذِ الطَّائِرِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يُعْفَى عَنْهُ فِي الثَّوْبِ دُونَ الْمَاءِ وَهُوَ الدَّمُ الْيَسِيرُ مِنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ إِلا دَمَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِهِ طِينُ الشَّارِعِ الْمُتَيَقَّنِ نَجَاسَتُهُ، فَلَوْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ أَوْ غَمَسَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ وَعَلَيْهَا قَلِيلُ دَمِ بُرْغُوثٍ أَوْ قَمْلٍ أَوْ غَمَسَ فِيهِ ثَوْبًا فِيهِ دَمُ بُرْغُوثٍ تَنَجَّسَ. وَفَرَّقَ الْعِمْرَانِيُّ بَيْنَ الثِّيَابِ وَالْمَاءِ بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: أَنَّ الثِّيَابَ لا يُمْكِنُ صَوْنُهَا عَنِ النَّجَاسَةِ بِخِلافِ الأَوَانِي فَإِنَّ صَوْنَهَا مُمْكِنٌ بِالتَّغْطِيَةِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ غَسْلَ الثِّيَابِ كُلَّ وَقْتٍ يَقْطَعُهَا فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ الَّتِي يُمْكِنُ وُقُوعُهَا فِيهَا بِخِلافِ الْمَاءِ وَمِنْ ذَلِكَ الثَّوْبُ الَّذِي فِيهِ دَمُ بُرْغُوثٍ يُصَلِّي فِيهِ وَلَوْ وَضَعَهُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ يُنَجِّسُهُ فَيَحْتَاجُ الَّذِي يَغْسِلُهُ أَنْ يُطَهِّرَهُ بَعْدَ الْغَسْلِ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ مَا عَلَى مَحَلِّ الاسْتِنْجَاءِ يُعْفَى عَنْهُ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ حَتَّى لَوْ سَالَ بِعَرَقٍ وَنَحْوِهِ وَوَقَعَ فِي الثَّوْبِ عُفِيَ عَنْهُ فِي الأَصَحِّ، وَلَوِ اتَّصَلَ بِالْمَاءِ نَجَّسَهُ.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا لا يُعْفَى عَنْهُ فِيهِمَا وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا أَدْرَكَهُ الطَّرْفُ مِنْ سَائِرِ الأَبْوَالِ وَالأَرْوَاثِ وَغَيْرِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ. (٢٤)

رَابِعًا: مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ

الأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ أَوْ لا يُدْرِكُهُ كَالَّذِي يَعْلَقُ بِأَرْجُلِ الذُّبَابِ وَالْبَقِّ وَمَا أَشْبَهَهُ (٢٥) لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، وَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أُمِرْنَا أَنْ نَغْسِلَ الأَنْجَاسَ سَبْعًا "، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَدِلَّةِ.

إِلا أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا عَنْ هَذَا الأَصْلِ بَعْضَ النَّجَاسَاتِ وَصَرَّحُوا بِالْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهَا (٢٦) مِنْهَا:

الدَّمُ، وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ فِي الصَّلاةِ دُونَ الْمَائِعَاتِ وَالْمَطْعُومَاتِ فَإِنَّ الإِنْسَانَ غَالِبًا لا يَسْلَمُ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " مَا كَانَ لإِحْدَانَا إِلا ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا فَقَصَعَتْهُ بِظُفُرِهَا "، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ لأَنَّ الرِّيقَ لا يُطَهِّرُ وَيَتَنَجَّسُ بِهِ ظُفُرُهَا وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ دَوَامِ الْفِعْلِ، وَمِثْلُهُ لا يَخْفَى عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فَلا يَصْدُرُ إِلا عَنْ أَمْرِهِ، وَلأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَعُفِيَ عَنْهُ كَأَثَرِ الاسْتِجْمَارِ (٢٧) وَيُعْفَى عَنْهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مُصَلٍّ بِأَنْ أَصَابَتِ الْمُصَلِّيَ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ كَانَتْ مِنْهُ. (٢٨)

وَقِيلَ: لا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ إِلا إِذَا كَانَ مِنْ دَمِ نَفْسِهِ (٢٩) وَالْيَسِيرُ: الَّذِي لَمْ يَنْقُضِ الْوُضُوءَ، وَالْكَثِيرُ: مَا نَقَضَ الْوُضُوءَ.

وَالدَّمُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ مَا كَانَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ لا الْكَلْبَ وَلا الْخِنْزِيرَ. (٣٠)

مَا تَوَلَّدَ مِنَ الدَّمِ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، فَإِنَّ الْعَفْوَ عَنْهُمَا أَوْلَى لاخْتِلافِ الْعُلَمَاءِ فِي نَجَاسَتِهِمَا، وَلِذَلِكَ قَالَ أَحَمْدُ: هُوَ أَسْهَلُ مِنَ الدَّمِ فَعَلَى هَذَا يُعْفَى مِنْهُ عَنْ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْفَى عَنْ مِثْلِهِ فِي الدَّمِ، لأَنَّ هَذَا لا نَصَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ نَجَاسَتُهُ لاسْتِحَالَتِهِ مِنَ الدَّمِ، وَلأَحْمَدَ قَوْلٌ بِطَهَارَةِ قَيْحٍ وَمِدَّةٍ وَصَدِيدٍ. (٣١)

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمٍ أَوْ قَيْحٍ أَوْ صَدِيدٍ خَرَجَ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ لأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَفِي وَجْهٍ يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ. (٣٢)

وَيُعْفَى أَثَرُ الاسْتِجْمَارِ بِمَحَلِّهِ، بَعْدَ الإِنْقَاءِ وَاسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ بِلا خِلافٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَعَدَّى مَحَلَّهُ إِلَى الثَّوْبِ أَوِ الْبَدَنِ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ. (٣٣)

وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ سَلَسِ بَوْلٍ بَعْدَ كَمَالِ التَّحَفُّظِ لِمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ. (٣٤)

وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دُخَانِ نَجَاسَةٍ وَبُخَارِهَا وَغُبَارِهَا مَا لَمْ تَظْهَرْ لَهُ صِفَةٌ فِي الشَّيْءِ الطَّاهِرِ، لأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: مَا لَمْ يَتَكَاثَفْ.

وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ مَاءٍ تَنَجَّسَ بِشَيْءٍ مَعْفُوٍّ عَنْ يَسِيرِهِ كَدَمٍ وَقَيْحٍ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ، قَالَهُ ابْنُ حَمْدَانَ فِي رِعَايَتَيْهِ، وَعِبَارَتُهُ: وَعَنْ يَسِيرِ الْمَاءِ النَّجِسِ بِمَا عُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ مِنْ دَمٍ وَنَحْوِهِ، وَأَطْلَقَ الْمُنَقِّحُ فِي التَّنْقِيحِ الْقَوْلَ عَنِ ابْنِ حَمْدَانَ بِالْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الْمَاءِ النَّجِسِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِمَا عُفِيَ عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ. (٣٥)

وَيُعْفَى عَنْ مَا فِي الْعَيْنِ مِنْ نَجَاسَةٍ فَلا يَجِبُ غَسْلُهَا لِلتَّضَرُّرِ بِهِ وَكَذَا يُعْفَى عَنْ نَجَاسَةٍ دَاخِلَ أُذُنٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّضَرُّرِ أَيْضًا وَهُوَ مُتَّجَهٌ كَمَا قَالَ الرَّحِيبَانِيُّ. (٣٦)

وَيُعْفَى عَنْ حَمْلِ كَثِيرِ النَّجَاسَةِ فِي صَلاةِ الْخَوْفِ لِلضَّرُورَةِ. (٣٧)

وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ طِينِ شَارِعٍ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهُ لِعُسْرِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ وَمِثْلُهُ تُرَابٌ، قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَإِنْ هَبَّتْ رِيحٌ فَأَصَابَ شَيْئًا رَطْبًا غُبَارٌ نَجِسٌ مِنْ طَرِيقٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ (٣٨) وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مَا عُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ كَالدَّمِ وَنَحْوِهِ عُفِيَ عَنْ أَثَرِ كَثِيرِهِ عَلَى جِسْمٍ صَقِيلٍ بَعْدَ مَسْحٍ، لأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْمَسْحِ يَسِيرٌ وَإِنْ كَثُرَ مَحَلُّهُ فَعُفِيَ عَنْهُ كَيَسِيرِ غَيْرِهِ. (٣٩)

وَقَالُوا: يُضَمُّ نَجَسٌ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ مُتَفَرِّقٌ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ كَانَ فِيهِ بُقَعٌ مِنْ دَمٍ أَوْ قَيْحٍ أَوْ صَدِيدٍ فَإِنْ صَارَ بِالضَّمِّ كَثِيرًا لَمْ تَصِحَّ الصَّلاةُ فِيهِ وَإِلا عُفِيَ عَنْهُ، وَلا يُضَمُّ مُتَفَرِّقٌ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَوْبٍ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ ثَوْبٍ عَلَى حِدَتِهِ. (٤٠)

وَالْمُرَادُ بِالْعَفْوِ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلاةَ تَصِحُّ مَعَهُ مَعَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ حَتَّى لَوْ وَقَعَ هَذَا الْيَسِيرُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ نَجَّسَهُ. (٤١)

قال الترمذي: (قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ التَّابِعِينَ إِذَا كَانَ الدَّمُ مِقْدَارَ الدِّرْهَمِ فَلَمْ يُغْسَلْ وَصَلَّى فِيهِ أَعَادَ الصَّلَاةَ)

جَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ رَوْحِ بْنِ غَطِيفٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تُعَادُ الصَّلَاةُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ الدَّمِ وَفِي لَفْظٍ إِذَا كَانَ فِي الثَّوْبِ قَدْرُ الدِّرْهَمِ مِنْ الدَّمِ غُسِلَ الثَّوْبُ وَأُعِيدَتْ الصَّلَاةُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثٌ بَاطِلٌ، وَرَوْحٌ هَذَا مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ اِبْنُ حِبَّانَ هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ لَا شَكَّ فِيهِ لَمْ يَقُلْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ اِخْتَرَعَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَكَانَ رَوْحُ بْنُ غَطِيفٍ يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ الثِّقَاتِ، وَذَكَرَهُ اِبْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَذَكَرَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ نُوحِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ يَزِيدَ الْهَاشِمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَأَغْلَظَ فِي نُوحِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ كَذَا فِي تَخْرِيجِ الزَّيْلَعِيِّ

قال الترمذي: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا كَانَ الدَّمُ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ أَعَادَ الصَّلَاةَ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ)

وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ قَدْرُ الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ مِنْ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ كَالدَّمِ وَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَخَرْءِ الدَّجَاجِ وَبَوْلِ الْحِمَارِ جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَهُ وَإِنْ زَادَ فَلَمْ يَجُزْ قَالَ لَنَا إِنَّ الْقَلِيلَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَيُجْعَلُ مَعْفُوًّا وَقَدَّرْنَاهُ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ أَخْذًا عَنْ مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ اِنْتَهَى.

قَالَ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ ص ٩٠٣ ج ١، وَأَمَّا تَقْدِيرُ أَصْحَابِنَا الْقَلِيلَ بِصَدْرِ الدِّرْهَمِ فَلِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَدَّرَا النَّجَاسَةَ بِالدِّرْهَمِ وَكَفَى بِهِمَا حُجَّةً فِي الِاقْتِدَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِظُفُرِهِ. وَفِي الْمُحِيطِ وَكَانَ ظُفُرُهُ قَرِيبًا مِنْ كَفِّنَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ لَا يَمْنَعُ اِنْتَهَى.

قُلْتُ: لَا بُدَّ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنْ يُثْبِتُوا صِحَّةَ آثَارِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ الْمَذْكُورَةَ وَبِمُجَرَّدِ ذِكْرِ صَاحِبِ الْأَسْرَارِ هَذِهِ الْآثَارَ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا وَإِنِّي قَدْ فَتَّشْت كَثِيرًا لَكِنْ لَمْ أَقِفْ عَلَى أَسَانِيدِهَا وَلَا عَلَى مُخَرِّجِيهَا فَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ كَيْفَ حَالُهَا، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّ ظُفُرَ عُمَرَ كَانَ قَرِيبًا مِنْ كَفِّنَا فَهَذَا اِدِّعَاءٌ مَحْضٌ لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ، نَعَمْ ثَبَتَ أَنَّهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ طَوِيلَ الْقَامَةِ، قَالَ الْحَافِظُ اِبْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ التَّلْقِيحُ مَا لَفْظُهُ: تَسْمِيَةُ الطِّوَالِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ اِنْتَهَى وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كَوْنَ عُمَرَ مِنْ طِوَالِ الصَّحَابَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ ظُفُرُهُ قَرِيبًا مِنْ كَفِّنَا وَأَمَّا تَقْدِيرُهُمْ أَخْذًا عَنْ مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ فَفِيهِ أَيْضًا كَلَامٌ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ. تحفة١٣٨

قَالَ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: قَالَ اِبْنُ بَطَّالٍ حَدِيثُ أَسْمَاءَ أَصْلٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي غَسْلِ النَّجَاسَاتِ مِنْ الثِّيَابِ، ثُمَّ قَالَ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عِنْدَهُمْ عَلَى الدَّمِ الْكَثِيرِ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي نَجَاسَتِهِ أَنْ يَكُونَ مَسْفُوحًا وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْكَثِيرِ الْجَارِي. لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ اِخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا يُتَجَاوَزُ عَنْهُ مِنْ الدَّمِ: فَاعْتَبَرَ الْكُوفِيُّونَ فِيهِ وَفِي النَّجَاسَاتِ دُونَ الدِّرْهَمِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ قَلِيلُ الدَّمِ مَعْفُوٌّ وَيُغْسَلُ قَلِيلُ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَرُوِيَ عَنْ اِبْنِ وَهْبٍ أَنَّ قَلِيلَ دَمِ الْحَيْضِ كَكَثِيرِهِ وَكَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدِّمَاءِ، وَالْحُجَّةُ فِي أَنَّ الْيَسِيرَ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ كَالْكَثِيرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَسْمَاءَ: حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ، حَيْثُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَلَا سَأَلَهَا عَنْ مِقْدَارِهِ وَلَمْ يَحُدَّ فِيهِ مِقْدَارَ الدِّرْهَمِ وَلَا دُونَهُ.

قَالَ الْعَيْنِيُّ حَدِيثُ عَائِشَةَ مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فِيهِ تَحِيضُ فَإِنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ بَلَّتْهُ بِرِيقِهَا ثُمَّ قَصَعَتْهُ بِرِيقِهَا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا لَفْظُهُ: قَالَتْ بِرِيقِهَا فَقَصَعَتْهُ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا فِي الدَّمِ الْيَسِيرِ الَّذِي يَكُونُ مَعْفُوًّا عَنْهُ وَأَمَّا الْكَثِيرُ مِنْهُ فَصَحَّ عَنْهَا أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُهُ، فَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَعَلَى الشَّافِعِيِّ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ إِنَّ يَسِيرَ الدَّمِ يُغْسَلُ كَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ إِلَّا دَمُ الْبَرَاغِيثِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ،

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يَرَى بِالْقَطْرَةِ وَالْقَطْرَتَيْنِ بَأسًا فِي الصَّلَاةِ وَعَصَرَ اِبْنُ عُمَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا دَمٌ فَمَسَّهُ بِيَدِهِ وَصَلَّى، فَالشَّافِعِيَّةُ لَيْسُوا بِأَكْثَرَ اِحْتِيَاطًا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَلَا أَكْثَرَ رِوَايَةً مِنْهُمَا حَتَّى خَالَفُوهُمَا حَيْثُ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَى أَنَّ قَلِيلَ الدَّمِ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو فِي غَالِبِ حَالِهِ مِنْ بَثْرَةٍ وَدُمَّلٍ أَوْ بُرْغُوثٍ فَعُفِيَ عَنْهُ وَلِهَذَا حَرَّمَ اللهُ الْمَسْفُوحَ مِنْهُ فَدَلَّ أَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ اِنْتَهَى كَلَامُ الْعَيْنِيِّ.

قُلْتُ: فِي كَلَامِ الْعَيْنِيِّ هَذَا أَشْيَاءُ , فَتَفَكَّرْ. تحفة١٣٨

قلت: كلام العيني فيه نظر , وإليك وجهة نظر الحافظ ابن حجر في الجمع بين حديث الغسل , ألا وهو حديث أسماء , وحديث البَلِّ بالريق: ع


(١) (عب) ٤٦٠ , (طب) ٩٢٢٠ , وصححه الألباني في تمام المنة ص٥٢
(٢) الاختيار شرح المختار ١/ ٨، ٣٠، ٣١، ومراقي الفلاح ١٧، ٣٠ ط الحلبي.
(٣) حاشية الدسوقي ١/ ٥٧، والخرشي على مختصر خليل ١/ ٨٧.
(٤) الإقناع للشربيني الخطيب ١/ ٨٢، ٨٣.
(٥) كشاف القناع ١/ ١٩٠، ١٩١.
(٦) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص ٨٢.
(٧) الفتاوى الهندية ١/ ٤٥.
(٨) مراقي الفلاح ص ٨٤.
(٩) حاشية ابن عابدين ١/ ٢١١.
(١٠) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص ٨٤، وانظر حاشية ابن عابدين ١/ ٢١٠.
(١١) غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر ١/ ١٠٧ ط. باكستان.
(١٢) مراقي الفلاح ص ٨٤.
(١٣) الفتاوى الهندية ١/ ٤٦.
(١٤) تبيين الحقائق ١/ ٧٣ ـ ٧٤.
(١٥) حاشية الشلبي بهامش تبيين الحقائق ١/ ٧٤.
(١٦) مراقي الفلاح ص ٨٢.
(١٧) حاشية ابن عابدين ١/ ٢١٤.
(١٨) حاشية ابن عابدين ١/ ٢١٣.
(١٩) عقد الجواهر الثمينة ١/ ١٩ ط. دار الغرب الإسلامي.
(٢٠) المرجع نفسه ١/ ٢٠ ـ ٢١
(٢١) المرجع نفسه ١/ ٢١
(٢٢) المرجع نفسه ١/ ٢١
(٢٣) المنثور في القواعد للزركشي ٣/ ٢٦٤ ـ ٢٦٦.
(٢٤) المنثور في القواعد للزركشي ٣/ ٢٦٦ ـ ٢٦٨.
(٢٥) المستوعب ١/ ٣٤٢ نشر مكتبة المعارف ـ الرياض.
(٢٦) مطالب أولي النهى ١/ ٢٣٥.
(٢٧) المبدع ١/ ٢٤٦.
(٢٨) شرح منتهى الإرادات ١/ ١٠٢ والإنصاف ١/ ٣٢٥ وما بعدها.
(٢٩) المبدع ١/ ٢٤٧.
(٣٠) المرجع نفسه.
(٣١) المبدع ١/ ٢٤٨، والمغني ٢/ ٨٠.
(٣٢) شرح منتهى الإرادات ١/ ١٠٣، ومطالب أولي النهى ١/ ٢٣٥، والإنصاف ١/ ٣٢٦.
(٣٣) شرح منتهى الإرادات ١/ ١٠٣، وكشاف القناع ١/ ١٩٢، ومطالب أولي النهى ١/ ٢٣٥.
(٣٤) شرح منتهى الإرادات ١/ ١٠٣، ومطالب أولي النهى ١/ ٢٣٦.
(٣٥) شرح منتهى الإرادات ١/ ١٠٣، ومطالب أولي النهى ١/ ٢٣٦.
(٣٦) شرح منتهى الإرادات ١/ ١٠٣، ومطالب أولي النهى ١/ ٢٣٦ ـ ٢٣٧.
(٣٧) مطالب أولي النهى ١/ ٢٣٧.
(٣٨) مطالب أولي النهى ١/ ٢٣٧.
(٣٩) مطالب أولي النهى ١/ ٢٣٥.
(٤٠) شرح منتهى الإرادات ١/ ١٠٣.
(٤١) المستوعب ١/ ٣٤٢، وانظر كشاف القناع ١/ ١٩٠.