للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(ت س د ن) , وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ الْجُهَنِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: (" أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم -) (١) (قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ) (٢) (فَقُرِئَ عَلَيْنَا) (٣) (بِأَرْضِ جُهَيْنَةَ وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ) (٤) (أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ (٥) ") (٦)

وفي رواية: " قُرِئَ عَلَيْنَا كِتَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - مِنْ أَرْضِ جُهَيْنَةَ وَأَنَا غُلامٌ شَابٌّ , أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ " (٧)

مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَة:

ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لا يَحِلُّ الانْتِفَاعُ بِالدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ يَقُولُ وَهُوَ بِمَكَّةَ: " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَالَ: لا. هُوَ حَرَامٌ "

كَمَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الانْتِفَاعِ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ لأَنَّ عَمَلَهُمْ لا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ وَلأَنَّ غَيْرَهُ لا يَعْمَلُ عَمَلَهُ (٨)

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الانْتِفَاعِ بِمُتَنَجِّسٍ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ كَزَيْتٍ وَلَبَنٍ وَخَلٍّ وَنَبِيذٍ، أَمَّا النَّجِسُ وَهُوَ مَا كَانَتْ ذَاتُهُ نَجِسَةً كَالْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهِمَا فَلا يُنْتَفَعُ بِهِ، إِلا جِلْدَ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغَ فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بَعْدَ الدَّبْغِ فِي الْيَابِسَاتِ وَالْمَاءِ، أَوْ مَيْتَةً تُطْرَحُ لِكِلابٍ إِذْ طَرْحُ الْمَيْتَةِ لِلْكِلابِ فِيهِ انْتِفَاعٌ لِتَوْفِيرِ مَا كَانَتْ تَأكُلُهُ مِنْ عِنْدِ صَاحِبِهَا، أَوْ شَحْمَ مَيْتَةٍ لِدُهْنِ عِجْلَةٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ عَظْمَ مَيْتَةٍ لِوَقُودٍ عَلَى طُوبٍ أَوْ حِجَارَةٍ لِتَصِيرَ جِيرًا، أَوْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ كَإِسَاغَةِ غُصَّةٍ بِخَمْرٍ عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهِ، وَكَأَكْلِ مَيْتَةٍ لِمُضْطَرٍّ، أَوْ جَعْلَ عَذِرَةٍ بِمَاءٍ لِسَقْيِ الزَّرْعِ فَيَجُوزُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ لا فِيهِ، فَلا يُوقَدُ بِزَيْتٍ تَنَجَّسَ إِلا إِذَا كَانَ الْمِصْبَاحُ خَارِجَهُ وَالضَّوْءُ فِيهِ فَيَجُوزُ، وَلا يُبْنَى بِالْمُتَنَجِّسِ فَإِنْ بُنِيَ بِهِ لا يُهْدَمُ لإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَفِي غَيْرِ أَكْلِ وَشُرْبِ آدَمِيٍّ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الآدَمِيِّ أَكْلُ وَشُرْبُ الْمُتَنَجِّسِ لِتَنْجِيسِهِ جَوْفَهُ وَعَجْزِهِ عَنْ تَطْهِيرِهِ، وَلا يُدْهَنُ بِهِ، إِلا أَنَّ الادِّهَانَ بِهِ مَكْرُوهٌ عَلَى الرَّاجِحِ إِنْ عَلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَا يُزِيلُ بِهِ النَّجَاسَةَ، وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ الْمَسْجِدِ وَأَكْلِ الآدَمِيِّ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِالزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ وَيُعْمَلَ بِهِ صَابُونٌ، ثُمَّ تُغْسَلَ الثِّيَابُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ بَعْدَ الْغَسْلِ بِهِ، وَيُدْهَنَ بِهِ حَبْلٌ وَعَجَلَةٌ وَسَاقِيَةٌ وَيُسْقَى بِهِ وَيُطْعَمَ لِلدَّوَابِّ (٩)

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ النَّجِسِ وَالْمُتَنَجِّسِ فِي الأَشْيَاءِ الْيَابِسَةِ كَاسْتِعْمَالِ الإِنَاءِ مِنَ الْعَظْمِ النَّجِسِ، وَكَذَا جِلْدُ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَإِيقَادُ عِظَامِ الْمَيْتَةِ لَكِنْ يُكْرَهُ (١٠)

وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الاسْتِصْبَاحِ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ إِبَاحَتُهُ، لأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَمَرَ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُطْلَى بِهِ السُّفُنُ، وَعَنْ أَحْمَدَ لا يَجُوزُ الاسْتِصْبَاحُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، لِحَدِيثِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ شُحُومِ الْمَيْتَةِ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ فَقَالَ: لا، هُوَ حَرَامٌ "

وَفِي إِبَاحَةِ الاسْتِصْبَاحِ بِهِ قَالُوا: إِنَّهُ زَيْتٌ أُمْكِنَ الانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَجَازَ كَالطَّاهِرِ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَجِينِ الَّذِي عُجِنَ بِمَاءٍ مِنْ آبَارِ ثَمُودَ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ أَكْلِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْلِفُوهُ النَّوَاضِحَ، وَهَذَا الزَّيْتُ لَيْسَ بِمَيْتَةٍ وَلا هُوَ مِنْ شُحُومِهَا فَيَتَنَاوَلُهُ الْخَبَرُ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَصْبَحُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لا يَمَسُّهُ وَلا تَتَعَدَّى نَجَاسَتُهُ إِلَيْهِ.

وَلَمْ يَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ تُدْهَنَ بِهَا الْجُلُودُ وَقَالَ: يُجْعَلُ مِنْهُ الأَسْقِيَةُ وَالْقِرَبُ.

وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تُدْهَنُ بِهِ الْجُلُودُ، وَعَجِبَ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا وَقَالَ: إِنَّ فِي هَذَا لَعَجَبًا!! شَيْءٌ يُلْبَسُ يُطَيَّبُ بِشَيْءٍ فِيهِ مَيْتَةٌ؟!! فَعَلَى هَذَا أَيْ عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ: كُلُّ انْتِفَاعٍ يُفْضِي إِلَى تَنْجِيسِ إِنْسَانٍ لا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُفْضِ إِلَى ذَلِكَ جَازَ، فَأَمَّا أَكْلُهُ فَلا إِشْكَالَ فِي تَحْرِيمِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلا تَقْرَبُوهُ " وَلأَنَّ النَّجِسَ خَبِيثٌ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْخَبَائِثَ.

فَأَمَّا شُحُومُ الْمَيْتَةِ وَشَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَلا يَجُوزُ الانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا بِاسْتِصْبَاحٍ وَلا غَيْرِهِ، وَلا أَنْ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَلا الْجُلُودُ، لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَالَ: لا، هُوَ حَرَامٌ ".

وَإِذَا اسْتُصْبِحَ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ فَدُخَانُهُ نَجِسٌ لأَنَّهُ جُزْءٌ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ وَالاسْتِحَالَةُ لا تَطْهُرُ، فَإِنْ عَلِقَ بِشَيْءٍ وَكَانَ يَسِيرًا عُفِيَ عَنْهُ، لأَنَّهُ لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَأَشْبَهَ دَمَ الْبَرَاغِيثِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ. (١١)


(١) (ت) ١٧٢٩
(٢) (د) ٤١٢٨ , (حم) ١٨٨٠٤
(٣) (س) ٤٢٤٩
(٤) (د) ٤١٢٧
(٥) عَصَبُ الإِنسانِ والدابةِ , والأَعْصابُ: أَطنابُ المَفاصِل التي تُلائمُ بَيْنَها وتَشُدُّها. لسان العرب (ج ١ / ص ٦٠٢)
(٦) (ت) ١٧٢٩ , (س) ٤٢٤٩ , (د) ٤١٢٨ , (جة) ٣٦١٣ , (حب) ١٢٧٨ , وصححه الألباني في الإرواء: ٣٨ , وقال الحافظ فى " الفتح " ٩/ ٦٥٩: صححه ابن حبان , وحسنه الترمذي , وقال الأرناؤوط في (حب): صحيح.
(٧) (ن) ٤٥٧٥ , انظر الصَّحِيحَة: ٣١٣٣
(٨) ابن عابدين ١/ ٢٣١ الطبعة الثالثة ١٣٢٣ هـ المطبعة الأميرية الكبرى، وفتح القديروالعناية بهامشه ٥/ ٢٠٢، ٣٥٧ ـ ٣٥٩ المطبعة الكبرى الأميرية ١٣١٦ هـ.
(٩) حاشية الدسوقي ١/ ٦٠ ـ ٦١، وجواهر الإكليل ١/ ١٠، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك ١/ ٥٤ ـ ٥٥.
(١٠) روضة الطالبين ١/ ٤٤.
(١١) المغني مع الشرح الكبير ١١/ ٨٦ ـ ٨٨ ط دار الكتاب العربي.