للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(د) , وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: كَتَبَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَسْأَلُهُ عَنْ الْقَدَرِ , فَكَتَبَ إلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ , كَتَبْتَ تَسْأَلُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْقَدَرِ , فَعَلَى الْخَبِيرِ بِإِذْنِ اللهِ وَقَعْتَ , مَا أَعْلَمُ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنْ مُحْدَثَةٍ , وَلَا ابْتَدَعُوا مِنْ بِدْعَةٍ هِيَ أَبْيَنُ أَثَرًا , وَلَا أَثْبَتُ أَمْرًا مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْقَدَرِ , لَقَدْ ذَكَرَهُ (١) فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْجُهَلَاءُ , يَتَكَلَّمُونَ بِهِ فِي كَلَامِهِمْ وَفِي شِعْرِهِمْ , يُعَزُّونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَا فَاتَهُمْ , ثُمَّ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ بَعْدُ إِلَّا شِدَّةً , وَلَقَدْ ذَكَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَيْرِ حَدِيثٍ وَلَا حَدِيثَيْنِ , وَقَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ , فَتَكَلَّمُوا بِهِ فِي حَيَاتِهِ , وَبَعْدَ وَفَاتِهِ , يَقِينًا وَتَسْلِيمًا لِرَبِّهِمْ , وَتَضْعِيفًا لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمُهُ (٢) وَلَمْ يُحْصِهِ كِتَابُهُ , وَلَمْ يَمْضِ فِيهِ قَدَرُهُ (٣) وَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَفِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ (٤) مِنْهُ اقْتَبَسُوهُ , وَمِنْهُ تَعَلَّمُوهُ (٥) وَلَئِنْ قُلْتُمْ: لِمَ أَنْزَلَ اللهُ آيَةَ كَذَا (٦)؟ , لِمَ قَالَ كَذَا؟ , لَقَدْ قَرَءُوا (٧) مِنْهُ مَا قَرَأتُمْ , وَعَلِمُوا مِنْ تَأوِيلِهِ (٨) مَا جَهِلْتُمْ , وَقَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ (٩): بِكِتَابٍ وَقَدَرٍ (١٠) وَكُتِبَتِ الشَّقَاوَةُ , وَمَا يُقَدَّرُ يَكُنْ , وَمَا شَاءَ اللهُ كَانَ , وَمَا لَمْ يَشَأ لَمْ يَكُنْ (١١) وَلَا نَمْلِكُ لِأَنْفُسِنَا ضَرًّا وَلَا نَفْعًا , ثُمَّ رَغِبُوا (١٢) بَعْدَ ذَلِكَ (١٣) وَرَهِبُوا (١٤). (١٥)


(١) أَيْ: الْإِقْرَار بِالْقَدَرِ. عون المعبود - (ج ١٠ / ص ١٣٢)
(٢) أَيْ: عِلْمُ الله تَعَالَى. عون المعبود - (ج ١٠ / ص ١٣٢)
(٣) أَيْ أَنَّ الصَّحَابَة - رضي الله عنهم - أَقَرُّوا بِالْقَدَرِ وَتَيَقَّنُوا بِهِ , وَسَلَّمُوا ذَلِكَ لِرَبِّهِمْ , وَضَعَّفُوا أَنْفُسهمْ , أَيْ: اِسْتَحَالُوا أَنْ يَكُون شَيْء مِنْ الْأَشْيَاء مِمَّا عَزَبَ وَغَابَ عَنْ عِلْمه تَعَالَى لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمه تَعَالَى, وَلَمْ يَضْبِطهُ كِتَابه وَلَمْ يَنْفُذ فِيهِ أَمْره. عون (١٠/ ١٣٢)
(٤) أَيْ: لَمَذْكُورٌ فِي الْقُرْآن الْمَجِيد. عون المعبود - (ج ١٠ / ص ١٣٢)
(٥) أَيْ: تَعَلَّمُوا الْإِقْرَار بِالْقَدَرِ. عون المعبود - (ج ١٠ / ص ١٣٢)
(٦) أَيْ: فِي شَأن الْآيَات الَّتِي ظَاهِرهَا يُخَالِف الْقَدَر. عون المعبود (١٠/ ١٣٢)
(٧) أَيْ: السَّلَف. عون المعبود - (ج ١٠ / ص ١٣٢)
(٨) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية الكبرى (١/ ٢٨٧):
التأويل يُراد به ثلاثُ معانٍ: فالتأويل في اصطلاحِ كثيرٍ منَ المتأخِّرينَ هو: صَرْفُ اللفظِ عنِ الاحتمالِ الراجحِ إلى الاحتمالِ المرجوح , لدليلٍ يَقْتَرنُ بذلك فلا يكون معنى اللفظِ الموافقِ لدلالةِ ظاهرِه تأويلاً على اصطلاحِ هؤلاءِ , وَظَنُّوا أنَّ مُرَادَ اللهِ بلفظِ التأويلِ ذلك، وأنَّ للنُّصوصِ تأويلاً مخالفًا لمدلولِها , لا يَعلمه إلا الله، أو يَعلمُه المتأوِّلُون.
ثُمَّ كثيرٌ من هؤلاءِ يَقولون: تُجرَى على ظاهرِها , فظاهرُها مرادٌ، مع قولهم إنَّ لها تأويلاً بهذا المعنى لا يعلمه إلا الله , وهذا تناقضٌ وَقَعَ فيه كثيرٌ من هؤلاء المنتسبين إلى السنة من أصحابِ الأئمةِ الأربعةِ وغيرِهم.
والمعنى الثاني: أن التَّأويلَ هو: تفسيرُ الكلامِ، سواءٌ وافق ظاهرَه , أو لم يُوافقْه , وهذا هو التأويلُ في اصطلاحِ جمهورِ المفسِّرين وغيرهم , وهذا التأويلُ يَعلمه الرَّاسخون في العلم، وهو مُوافقٌ لِوَقْفِ مَنْ وَقَفَ مِنَ السَّلَفِ عَلَى قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَاّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}.ثم نُقِلَ ذلك عنِ ابنِ عباسٍ، ومجاهدٍ، ومحمد بن جعفر بن الزبير، ومحمد بن إسحاق، وابن قتيبة , وغيرهم. وكِلا القولين حقٌّ باعتبارٍ كما قد بَسَطْنَاه في مواضعَ أُخَرَ، ولهذا نُقِلَ عنِ ابن عباس هذا وهذا، وكلاهما حقٌّ.
والمعنى الثالث: أنَّ التأويلَ هو الحقيقةُ التي يَؤُول الكلامُ إليها، وإن وَافَقتْ ظاهرَه؛ فتأويل ما أَخبر به في الجنة من الأكل، والشرب، واللباس، والنِّكاحِ، وقيام الساعة، وغير ذلك، هو الحقائق الموجودة أنفسها، لا ما يُتَصَوَّرُ من معانيها في الأذهان، ويُعَبَّرُ عنه باللسانِ، وهذا هو التأويل في لغة القرآن، كما قال تعالى عن يوسف - عليه السلام - أنه قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: ١٠٠]، وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ تَأوِيلَهُ , يَوْمَ يَأتِي تَأوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: ٥٣]، وقال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ , ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلاً} [النساء: ٥٩] وهذا التأويلُ هو الذي لا يعلمه إلا الله. أ. هـ
(٩) أَيْ: بَعْدَمَا قَرَءُوا مِنْ مُحْكَم كِتَابه مَا قَرَأتُمْ , وَعَلِمُوا مِنْ تَأوِيله مَا جَهِلْتُمْ. عون المعبود - (ج ١٠ / ص ١٣٢)
(١٠) أَيْ: أَقَرُّوا بِأَنَّ الله تَعَالَى كَتَبَ كُلَّ شَيْء , وَقَدَّرَهُ قَبْل أَنْ يَخْلُق السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِمُدَّةٍ طَوِيلَة. عون المعبود (ج ١٠ / ص ١٣٢)
(١١) قال شيخ الاسلام: مَعْنَى قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: "مَا شَاءَ اللهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأ لَمْ يَكُنْ" إذْ مَشِيئَتُهُ هِيَ الْمُوجِبَةُ وَحْدَهَا , لَا غَيْرُهَا , فَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهَا انْتِفَاؤُهُ , لَا يَكُونُ شَيْءٌ حَتَّى تَكُونَ مَشِيئَتُهُ , لَا يَكُونُ شَيْءٌ بِدُونِهَا بِحَالِ , فَلَيْسَ لَنَا سَبَبٌ يَقْتَضِي وُجُودَ شَيْءٍ , حَتَّى تَكُونَ مَشِيئَتُهُ مَانِعَةً مِنْ وُجُودِهِ , بَلْ مَشِيئَتُهُ هِيَ السَّبَبُ الْكَامِلُ فَمَعَ وُجُودِهَا لَا مَانِعَ، وَمَعَ عَدَمِهَا لَا مُقْتَضًى، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ , فَلَا مُمْسِكَ لَهَا , وَمَا يُمْسِكْ , فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}، وَقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ , فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ , وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ , فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} , وقال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ , إنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ , هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ , أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ , قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ خَيْرٌ أَصْلًا؛ بَلْ مَا بِنَا مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللهِ , وَإِذَا مَسَّنَا الضُّرُّ فَإِلَيْهِ نَجْأَرُ , وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ كَمَا قَالَ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ , وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} , وَقَالَ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا , قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}.
وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: {اللهمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ , خَلَقْتنِي وَأَنَا عَبْدُك , وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت , أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت , أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ , وَأَبُوءُ بِذَنْبِي , فَاغْفِرْ لِي , فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ}.وَقَالَ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: {لَبَّيْكَ وسعديك , وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك , وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك , تَبَارَكْت رَبَّنَا وَتَعَالَيْت}. أ. هـ
(١٢) أَيْ: السَّلَف الصَّالِحُونَ. عون المعبود - (ج ١٠ / ص ١٣٢)
(١٣) أَيْ: بَعْد الْإِقْرَار بِالْقَدَرِ فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة , وَلَمْ يَمْنَعهُمْ هَذَا الْإِقْرَار عَنْ الرَّغْبَة فِيهَا. عون المعبود (ج١٠ص١٣٢)
(١٤) أَيْ: خَافُوا الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ وَاتَّقَوْهَا. عون المعبود (ج ١٠ / ص ١٣٢)
(١٥) (د) ٤٦١٢ , وقال الألباني: صحيح الإسناد مقطوع.