الثاني: أنه قد خالفه من الصحابة من هو أفقه منه , وهو عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فروى عبد الرزاق في " المصنف " , وعنه الطبراني في " المعجم الكبير " بسند حسن عن إبراهيم أن علقمة والأسود أقبلا مع ابن مسعود إلى المسجد فاستقبلهم الناس وقد صلوا فرجع بهما إلى البيت ... ثم صلى بهما " فلو كانت الجماعة الثانية في المسجد جائزة مطلقا لما جمع ابن مسعود في البيت , مع أن الفريضة في المسجد أفضل كما هو معلوم , ثم وجدت ما يدل على أن هذا الأثر في حكم المرفوع , فانه يشهد له ما روى الطبراني في " الأوسط " عَنْ عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رسول الله - صلى اللهُ عليه وسلَّم - أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة فوجد الناس قد صلوا , فمال إلى منزله فجمع أهله فصلى بهم " , وقال: " لَا يروى عن أبي بكرة إِلَّا بهذا الإسناد " قلت: وهو حسن , وقال الهيثمي: " رواه الطبراني في " الكبير " و " الأوسط " ورجاله ثقات " ولعل الجماعة التي أقامها أنس - رضي الله عنه - كانت في مسجد ليس له إمام راتب ولا مؤذن راتب , فإن إعادتها في مثل هذا المسجد لَا تُكره لما يأتي , وبذلك يتفق الأثران ولا يختلفان. وأحسن ما وقفت عليه من كلام الأئمة في هذه المسألة هو كلام الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ولا بأس من نقله مع شيء من الاختصار ولو طال به التعليق نظرا لأهميته وغفلة أكثر الناس عنه , قال - رضي الله عنه - في " الأم ": " وإن كان لرجل مسجد يجمع فيه ففاتته الصلاة , فإن أتى مسجد جماعة غيره كان أحبَّ إلي إن لم يأته , وصلى في مسجده منفردا فحسن , وإذا كان للمسجد إمام راتب ففاتت رجلا أو رجالا فيه الصلاة صلوا فرادى , ولا أحب أن يصلوا فيه جماعة , فإن فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه , وإنما كرهت ذلك لهم لأنه ليس مما فعل السلف قبلنا , بل قد عابه بعضهم , وأحسب كراهية من كره ذلك منهم إنما كان لتفرقة الكلمة , وأن يرغب رجل عن الصلاة خلف إمام الجماعة , فيتخلف هو ومن أراد عن المسجد في وقت الصلاة , فإذا قُضِيت دخلوا فجمعوا , فيكون بهذا اختلاف وتفرق الكلمة وفيهما المكروه , وإنما أكره هذا في كل مسجد له إمام ومؤذن , فأما مسجدٌ بُنِي على ظهر الطريق أو ناحية لَا يؤذن فيه مؤذن راتب , ولا يكون له إمام راتب ويصلي فيه المارة ويستظلون , فلا أكره ذلك , لأنه ليس فيه المعنى الذي وصفت من تفرُّق الكلمة , وأن يرغب رجال عن إمامة رجل فيتخذون إماما غيره , قال الشافعي: وإنما منعني أن أقول: صلاة الرجل لَا تجوز وحده وهو يقدر على جماعة بحال , تفضيل النبي - صلى اللهُ عليه وسلَّم - صلاة الجماعة على صلاة المنفرد , ولم يقل: لَا تجزي المنفرد صلاته , وأنا قد حفظنا أنه قد فاتت رجالا معه الصلاة فصلوا بعلمه منفردين , وقد كانوا قادرين على أن يجمعوا , وأنه قد فاتت الصلاة في الجماعة قوما , فجاؤوا المسجد فصلى كل واحد منهم منفردا , وقد كانوا قادرين على أن يجمعوا في المسجد , فصلى كل واحد منهم منفردا , وإنما كرهوا لئلا يجمعوا في مسجد مرتين " أ. هـ كلام الشافعي وما علقه الشافعي عن الصحابة قد جاء موصولا عن الحسن البصري قال: " كان أصحاب محمد - صلى اللهُ عليه وسلَّم - إذا دخلوا المسجد وقد صلي فيه صلوا فرادى " رواه ابن أبي شيبة (٢/ ٢٢٣) وقال أبو حنيفة: " لَا يجوز إعادة الجماعة في مسجد له إمام راتب " , ونحوه في " المدونة " عن الإمام مالك. وبالجملة فالجمهور على كراهة إعادة الجماعة في المسجد بالشرط السابق , وهو الحق , ولا يعارض هذا الحديث المشهور: " أَلَا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه " , فإن غاية ما فيه حض الرسول - صلى اللهُ عليه وسلَّم - أحد الذين كانوا صلوا معه - صلى اللهُ عليه وسلَّم - في الجماعة الأولى أن يصلي وراءه تطوعا , فهي صلاة متنفل وراء مفترض , وبحْثُنَا إنما هو في صلاة مفترض وراء المفترض فاتتهم الجماعة الأولى , ولا يجوز قياس هذه على تلك , لأنه قياس مع الفارق من وجوه: الأول: أن الصورة الأولى المختلف فيها لم تُنقل عنه - صلى اللهُ عليه وسلَّم - لَا إذنا ولا تقريرا , مع وجود المقتضي في عهده - صلى اللهُ عليه وسلَّم - كما أفادته رواية الحسن البصري. الثاني: أن هذه الصورة تؤدي إلى تفريق الجماعة الأولى المشروعة , لأن الناس إذا علموا أنهم تفوتهم الجماعة , يستعجلون , فتكثر الجماعة , وإذا علموا أنها لَا تفوتهم , يتأخرون , فتقل الجماعة , وتقليل الجماعة مكروه , وليس شيء من هذا المحذور في الصورة التي أقرَّها رسول الله - صلى اللهُ عليه وسلَّم - فثبت الفرق , فلا يجوز الاستدلال بالحديث على خلاف المتقرِّر من هديه " - صلى اللهُ عليه وسلَّم - ". أ. هـ