للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(خ م ت حب) , وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: (كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - فَذَكَرَ الْقَوْمُ رَجُلًا , فَذَكَرُوا مِنْ خُلُقِهِ , فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ قَطَعْتُمْ رَأسَهُ؟ , أَكُنْتُمْ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تُعِيدُوهُ؟ , قَالُوا: لَا , قَالَ: فَيَدَهُ؟ , قَالُوا: لَا , قَالَ: فَرِجْلَهُ؟ , قَالُوا: لَا , قَالَ: فَإِنَّكُمْ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُغَيِّرُوا خُلُقَهُ , حَتَّى تُغَيِّرُوا خَلْقَهُ) (١) (فَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ , وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ , فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ يَشْقَى رَجُلٌ بِغَيْرِ عَمَلٍ؟) (٢) (قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ (٣) - قَالَ: " إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ (٤) فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا , ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً (٥) مِثْلَ ذَلِكَ , ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً (٦) مِثْلَ ذَلِكَ (٧)) (٨) (ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَصَوَّرَهُ , وَخَلَقَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ , وَجِلْدَهُ وَشَعْرَهُ , وَلَحْمَهُ وَعِظَامَهُ (٩)) (١٠) (وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ كَلِمَاتٍ (١١): فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ , وَأَجَلَهُ , وَعَمَلَهُ , وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ) (١٢) (يَقُولُ: يَا رَبِّ , أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ , فَيَجْعَلُهُ اللهُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى , ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ , أَسَوِيٌّ أَوْ غَيْرُ سَوِيٍّ؟ , فَيَجْعَلُهُ اللهُ سَوِيًّا أَوْ غَيْرَ سَوِيٍّ , ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ , مَا رِزْقُهُ؟ , فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ , وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ , ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ , مَا أَجَلُهُ؟ فَيَقُولُ رَبُّكَ مَا شَاءَ , وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ , ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ, مَا خُلُقُهُ؟ , أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ , فَيَجْعَلُهُ اللهُ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا , وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ (١٣)) (١٤) (فَيَقْضِي اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَمْرَهُ، فَيَكْتُبُ مَا هُوَ لَاقٍ حَتَّى النَّكْبَةَ يُنْكَبُهَا (١٥)) (١٦) (ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ (١٧)) (١٨) (ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ , فلَا يَزِيدُ عَلَى مَا أُمِرَ وَلَا يَنْقُصُ) (١٩) (فَوَاللهِ إِنَّ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ , حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ , فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ (٢٠) فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ (٢١)) (٢٢) (فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ , فَيَدْخُلُهَا) (٢٣) (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ , حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ , فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ) (٢٤) (فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ , فَيَدْخُلُهَا") (٢٥)

الشرح (٢٦)


(١) (خد) ٢٨٣ , انظر صَحْيح الْأَدَبِ الْمُفْرَد: ٢١٥
(٢) (م) ٢٦٤٥
(٣) أي: الصَّادِقُ فِي قَوْلِه، الْمَصْدُوقُ فِيمَا يَأتِيهِ مِنْ الْوَحْي الْكَرِيم. النووي (٨/ ٤٨٩)
(٤) قَالَ اِبْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْجَمْعِ مُكْثَ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِم، أَيْ: تَمْكُثُ النُّطْفَةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تُخَمَّر فِيهِ, حَتَّى تَتَهَيَّأ لِلتَّصْوِيرِ, ثُمَّ تُخْلَقُ بَعْدَ ذَلِكَ فتح الباري - (ج ١٨ / ص ٤٣٧)
(٥) العَلَقة: الدَّمُ الْجَامِدُ الْغَلِيظ , سُمِّيَ بِذَلِكَ لِلرُّطُوبَةِ الَّتِي فِيهِ, وَتَعَلُّقِهِ بِمَا مَرَّ بِهِ. فتح الباري - (ج ١٨ / ص ٤٣٧)
(٦) المُضْغَة: قِطْعَةُ اللَّحْم سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا قَدْرُ مَا يَمْضُغُ الْمَاضِغُ. فتح (١٨/ ٤٣٧)
(٧) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَصَيُّرَهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، فَيُخَالِطُ الدَّمُ النُّطْفَةَ فِي الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى بَعْد اِنْعِقَادِهَا وَامْتِدَادِهَا، وَتَجْرِي فِي أَجْزَائِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى تَتَكَامَلَ عَلَقَةً فِي أَثْنَاء الْأَرْبَعِينَ، ثُمَّ يُخَالِطُهَا اللَّحْم شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى أَنْ تَشْتَدَّ فَتَصِير مُضْغَة , وَلَا تُسَمَّى عَلَقَةً قَبْل ذَلِكَ مَا دَامَتْ نُطْفَة، وَكَذَا مَا بَعْد ذَلِكَ مِنْ زَمَان الْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَة. فتح الباري - (ج ١٨ / ص ٤٣٧)
(٨) (خ) ١٢٢٦
(٩) حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِجَمِيعِ طُرُقِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَنِينَ يَتَقَلَّبُ فِي مِائَة وَعِشْرِينَ يَوْمًا فِي ثَلَاثَة أَطْوَار , كُلُّ طَوْرٍ مِنْهَا فِي أَرْبَعِينَ , ثُمَّ بَعْدَ تَكْمِلَتِهَا يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَطْوَارَ الثَّلَاثَةَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمُدَّةٍ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، مِنْهَا فِي الْحَجّ , وَدَلَّتْ الْآيَةُ الْمَذْكُورةُ عَلَى أَنَّ التَّخْلِيقَ يَكُونُ لِلْمُضْغَةِ، وَبَيَّنَ الْحَدِيثُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِيهَا إِذَا تَكَامَلَتْ الْأَرْبَعِينَ , وَهِيَ الْمُدَّة الَّتِي إِذَا اِنْتَهَتْ سُمِّيَتْ مُضْغَة، وَذَكَرَ اللهُ النُّطْفَة , ثُمَّ الْعَلَقَةَ , ثُمَّ الْمُضْغَةَ فِي سُوَرٍ أُخْرَى , وَزَادَ فِي سُورَةِ (المؤمنون) بَعْد الْمُضْغَة {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا , فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} الْآيَةَ وَيُؤْخَذُ مِنْهَا وَمِنْ حَدِيث الْبَاب أَنَّ تَصَيُّرَ الْمُضْغَةِ عِظَامًا بَعْد نَفْخ الرُّوح. فتح الباري - (ج ١٨ / ص ٤٣٧)
(١٠) (م) ٢٦٤٥
(١١) الْمُرَاد بِالْكَلِمَاتِ: الْقَضَايَا الْمُقَدَّرَة، وَكُلّ قَضِيَّةٍ تُسَمَّى كَلِمَةً. فتح (١٨/ ٤٣٧)
(١٢) (خ) ٧٠١٦
(١٣) جَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَقَعُ مَرَّتَيْنِ: فَالْكِتَابَةُ الْأُولَى فِي السَّمَاء , وَالثَّانِيَة فِي بَطْنِ الْمَرْأَة. فتح الباري - (ج ١٨ / ص ٤٣٧)
فَالْمُرَاد بِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ الرِّزْقِ وَالْأَجَلِ وَالشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ وَالْعَمَلِ وَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَة , أَنَّهُ يَظْهَرُ ذَلِكَ لِلْمَلَكِ، وَيَأمُرُهُ اللهُ بِإِنْفَاذِهِ وَكِتَابَتِه، وَإِلَّا فَقَضَاءُ اللهِ تَعَالَى سَابِقٌ عَلَى ذَلِكَ، وَعِلْمُهُ وَإِرَادَتُه لِكُلِّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْأَزَل , وَالله أَعْلَم. شرح النووي على مسلم - (ج ٨ / ص ٤٩٣)
(١٤) (م) ٢٦٤٥
(١٥) (النَّكْبَةِ): مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ الْحَوَادِثِ. تحفة الأحوذي (٧/ ٣٥٩)
(١٦) (حب) ٦١٧٨ , وصححه الألباني في ظلال الجنة: ١٨٦، وصحيح موارد الظمآن: ١٥٢٠
(١٧) اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ نَفْخَ الرُّوحِ لَا يَكُون إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ , وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ الْحِكْمَةُ فِي عِدَّةِ الْمَرْأَةِ مِنْ الْوَفَاةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْر, وَهُوَ الدُّخُولُ فِي الشَّهْرِ الْخَامِسِ.
وَمَعْنَى إِسْنَادِ النَّفْخِ لِلْمَلَكِ: أَنَّهُ يَفْعَلهُ بِأَمْرِ الله، وَالنَّفْخُ فِي الْأَصْل: إِخْرَاجُ رِيحٍ مِنْ جَوْفِ النَّافِخِ , لِيَدْخُلَ فِي الْمَنْفُوخ فِيهِ.
وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْكِتَابَة تَقَع مَرَّتَيْنِ: فَالْكِتَابَةُ الْأُولَى فِي السَّمَاء , وَالثَّانِيَة فِي بَطْنِ الْمَرْأَة. فتح الباري - (ج ١٨ / ص ٤٣٧)
(١٨) (خ) ٣١٥٤ , ٧٠١٦
(١٩) (م) ٢٦٤٥ , ٢٦٤٤
(٢٠) أَيْ: أَنَّهُ يَتَعَارَضُ عَمَلُهُ فِي اِقْتِضَاءِ السَّعَادَةِ , وَالْمَكْتُوبُ فِي اِقْتِضَاءِ الشَّقَاوَةِ , فَيَتَحَقَّقُ مُقْتَضَى الْمَكْتُوبِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالسَّبْقِ , لِأَنَّ السَّابِقَ يَحْصُلُ مُرَادُهُ دُونَ الْمَسْبُوقِ , وَلِأَنَّهُ لَوْ تَمَثَّلَ الْعَمَلُ وَالْكِتَابُ شَخْصَيْنِ سَاعِيَيْنِ , لَظَفِرَ شَخْصُ الْكِتَابِ , وَغَلَبَ شَخْصَ الْعَمَلِ. فتح الباري - (ج ١٨ / ص ٤٣٧)
(٢١) أَيْ: مِنْ الطَّاعَات الِاعْتِقَادِيَّة وَالْقَوْلِيَّة وَالْفِعْلِيَّة. فتح الباري (ج ١٨ / ص ٤٣٧)
(٢٢) (خ) ١٢٢٦ , (م) ٢٦٤٣
(٢٣) (ت) ٢١٣٧
(٢٤) (خ) ١٢٢٦ , (م) ٢٦٤٣
(٢٥) (ت) ٢١٣٧
(٢٦) الْمُرَاد بِالذِّرَاعِ: التَّمْثِيل لِلْقُرْبِ مِنْ مَوْته , وَدُخُولِهِ عَقِبَهُ، وَأَنَّ تِلْكَ الدَّار مَا بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَصِلَهَا إِلَّا كَمَنْ بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْضِعٍ مِنْ الْأَرْضِ ذِرَاعٌ،
وَالْمُرَاد بِهَذَا الْحَدِيث: أَنَّ هَذَا قَدْ يَقَعُ فِي نَادِرٍ مِنْ النَّاس، لَا أَنَّهُ غَالِبٌ فِيهِمْ، ثُمَّ إنَّهُ مِنْ لُطْفِ اللهِ تَعَالَى وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ , اِنْقِلَابُ النَّاسِ مِنْ الشَّرِّ إِلَى الْخَيْرِ فِي كَثْرَةٍ، وَأَمَّا اِنْقِلَابُهُمْ مِنْ الْخَيْرِ إِلَى الشَّرِّ , فَفِي غَايَةِ النُّدُورِ , وَنِهَايَةِ الْقِلَّةِ، وَهُوَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: " إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي , وَغَلَبَتْ غَضَبِي " , وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَنْ اِنْقَلَبَ إِلَى عَمَلِ النَّارِ بِكُفْرٍ أَوْ مَعْصِيَة، لَكِنْ يَخْتَلِفَانِ فِي التَّخْلِيدِ وَعَدَمِه؛ فَالْكَافِرُ يُخَلَّدُ فِي النَّار، وَالْعَاصِي الَّذِي مَاتَ مُوَحِّدًا لَا يُخَلَّدُ فِيهَا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث تَصْرِيحٌ بِإِثْبَاتِ الْقَدَر، وَأَنَّ التَّوْبَةَ تَهْدِمُ الذُّنُوبَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى شَيْءٍ , حُكِمَ لَهُ بِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الْمَعَاصِي غَيْرَ الْكُفْرِ فِي الْمَشِيئَةِ. شرح النووي على مسلم - (ج ٨ / ص ٤٨٩)
قال الحافظ في الفتح (ج ١٨ / ص ٤٣٧): وَفِي الْحَدِيث أَنَّ الْأَعْمَالَ حَسَنَهَا وَسَيِّئَهَا أَمَارَاتٌ , وَلَيْسَتْ بِمُوجِبَاتٍ.
وَأَنَّ مَصِيرَ الْأُمُورِ فِي الْعَاقِبَةِ إِلَى مَا سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ , وَجَرَى بِهِ الْقَدَرُ فِي الِابْتِدَاء وَفِيهِ أَنَّ الِاعْتِبَار بِالْخَاتِمَةِ.
قَالَ اِبْنُ أَبِي جَمْرَةَ: هَذِهِ الَّتِي قَطَعَتْ أَعْنَاق الرِّجَال , مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْحَالِ , لِأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ بِمَاذَا يُخْتَم لَهُمْ.
وَفِيهِ أَنَّ عُمُومَ مِثْلِ قَوْلِه تَعَالَى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً , وَلَنَجْزِيَنَّهُم أَجْرَهُمْ} الْآيَة مَخْصُوصٌ بِمَنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ مَنْ عَمِلَ السَّعَادَةَ وَخُتِمَ لَهُ بِالشَّقَاءِ , فَهُوَ فِي طُولِ عُمُره عِنْد اللهِ شَقِيٌّ , وَبِالْعَكْسِ , وَمَا وَرَدَ مِمَّا يُخَالِفُهُ يَؤُولُ إِلَى أَنْ يَؤُوَّلَ إِلَى هَذَا.
وَقَدْ اُشْتُهِرَ الْخِلَاف فِي ذَلِكَ بَيْن الْأَشْعَرِيَّة وَالْحَنَفِيَّة , وَتَمَسَّكَ الْأَشَاعِرَة بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيث , وَتَمَسَّكَ الْحَنَفِيَّة بِمِثْلِ قَوْله تَعَالَى {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وَأَكْثَرَ كُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ الِاحْتِجَاجَ لِقَوْلِهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ، وَأَنَّ الَّذِي سَبَقَ فِي عِلْم الله لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ، وَأَنَّ الَّذِي يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ مَا يَبْدُو لِلنَّاسِ مِنْ عَمَلِ الْعَامِلِ ,
وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَعَلَّقَ ذَلِكَ بِمَا فِي عِلْمِ الْحَفَظَةِ وَالْمُوَكَّلِينَ بِالْآدَمِيِّ , فَيَقَعُ فِيهِ الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ , كَالزِّيَادَةِ فِي الْعُمُرِ وَالنَّقْصِ , وَأَمَّا مَا فِي عِلْمِ اللهِ , فَلَا مَحْوَ فِيهِ وَلَا إِثْبَاتَ , وَالْعِلْمُ عِنْد اللهِ.
وَفِيهِ أَنَّ فِي تَقْدِيرَ الْأَعْمَالِ مَا هُوَ سَابِقٌ وَلَاحِقٌ، فَالسَّابِق: مَا فِي عِلْم الله تَعَالَى , وَاللَّاحِق: مَا يُقَدَّرُ عَلَى الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ , كَمَا وَقَعَ فِي الْحَدِيث.
وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث عَبْد الله بْن عُمَر مَرْفُوعًا " كَتَبَ الله مَقَادِير الْخَلَائِق قَبْل أَنْ يَخْلُق السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ أَلْف سَنَةٍ "
فَهُوَ مَحْمُول عَلَى كِتَابَة ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ عَلَى وَفْقِ مَا فِي عِلْمِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ السِّقْطَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، وَهُوَ مَنْقُول عَنْ الْقَدِيم لِلشَّافِعِيِّ , وَالرَّاجِحُ عِنْد الشَّافِعِيَّة: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الرُّوح , وَهُوَ الْجَدِيد، وَقَدْ قَالُوا: فَإِذَا بَكَى , أَوْ اِخْتَلَجَ , أَوْ تَنَفَّسَ , ثُمَّ بَطَلَ ذَلِكَ , صُلِّيَ عَلَيْهِ , وَإِلَّا فَلَا، وَالْأَصْل فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ عَنْ جَابِر رَفَعَهُ: " إِذَا اُسْتُهِلَّ الصَّبِيُّ , وَرِثَ , وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ".
وَفِيهِ أَنَّ كُلًّا مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ قَدْ يَقَعُ بِلَا عَمَلٍ وَلَا عُمُرٍ , وَعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - " الله أَعْلَمْ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ ".
وَفِيهِ أَنَّ الْأَعْمَالَ سَبَبُ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ , وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ حَدِيث " لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمْ الْجَنَّةَ عَمَلُهُ ".
وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ، وَقَدْ عَمِلَ بِهِ جَمْعٌ جَمٌّ مِنْ السَّلَف وَأَئِمَّة الْخَلَفِ.
وَأَمَّا مَا قَالَ عَبْد الْحَقّ فِي " كِتَاب الْعَاقِبَة ": إِنَّ سُوءَ الْخَاتِمَةِ لَا يَقَع لِمَنْ اِسْتَقَامَ بَاطِنُهُ وَصَلُحَ ظَاهِرُهُ , وَإِنَّمَا يَقَع لِمَنْ فِي طَوِيَّتِهِ فَسَادٌ أَوْ اِرْتِيَابٌ , وَيَكْثُرُ وُقُوعُهُ لِلْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِر , وَالْمُجْتَرِئِ عَلَى الْعَظَائِمِ , فَيَهْجُمُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ بَغْتَةً , فَيَصْطَلِمُهُ الشَّيْطَانُ عِنْد تِلْكَ الصَّدْمَةِ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِسُوءِ الْخَاتِمَة , نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ.
وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللهِ رِعَايَةُ الْأَصْلَح , خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِهِ مِنْ الْمُعْتَزِلَة لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ بَعْضَ النَّاس يَذْهَبُ جَمِيعُ عُمُرِهِ فِي طَاعَةِ اللهِ , ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ بِالْكُفْرِ وَالْعِيَاذ بِاللهِ , فَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ فَيَدْخُل النَّار , فَلَوْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ الْأَصْلَحِ , لَمْ يَحْبَطْ جَمِيعُ عَمَلِهِ الصَّالِحِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا , وَلَا سِيَّمَا إِنْ طَالَ عُمُرُهُ , وَقَرُبَ مَوْتُهُ مِنْ كُفْرِهِ.
وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْض الْمُعْتَزِلَة عَلَى أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ , وَجَبَ أَنْ يَدْخُلَهَا , لِتَرَتُّبِ دُخُولهَا فِي الْخَبَرِ عَلَى الْعَمَلِ، وَتَرَتُّبُ الْحُكْم عَلَى الشَّيْء يُشْعِرُ بِعِلِّيَّتِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ عَلَامَةٌ , لَا عِلَّةٌ , وَالْعَلَامَةُ قَدْ تَتَخَلَّفُ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ عِلَّةٌ , لَكِنَّهُ فِي حَقِّ الْكُفَّار , وَأَمَّا الْعُصَاةُ فَخَرَجُوا بِدَلِيلِ {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فَمَنْ لَمْ يُشْرِكْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَشِيئَةِ.
وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْأَشْعَرِيُّ فِي تَجْوِيزِهِ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ , لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللهَ كَلَّفَ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ بِالْإِيمَانِ , مَعَ أَنَّهُ قَدَّرَ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَمْ يَثْبُتْ وُقُوعُهَا إِلَّا فِي الْإِيمَانِ خَاصَّةً , وَمَا عَدَاهُ لَا تُوجَدُ دَلَالَةٌ قَطْعِيَّة عَلَى وُقُوعِهِ , وَأَمَّا مُطْلَقُ الْجَوَازِ فَحَاصِلٌ.
وَفِيهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَرِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ , بِمَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُهَا وَمُقَدِّرُهَا , لَا أَنَّهُ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا.
وَفِيهِ أَنَّ جَمِيعَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِتَقْدِيرِ اللهِ تَعَالَى وَإِيجَادِهِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ وَالْجَبْرِيَّةُ , فَذَهَبَتْ الْقَدَرِيَّةُ إِلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ , فَنَسَبَ إِلَى اللهِ الْخَيْرَ , وَنَفَى عَنْهُ خَلْقَ الشَّرِّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ قَائِله , وَإِنْ كَانَ قَدْ اشْتُهِرَ ذَلِكَ , وَإِنَّمَا هَذَا رَأيُ الْمَجُوس.
وَذَهَبَتْ الْجَبْرِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكُلَّ فِعْلُ الله , وَلَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ فِيهِ تَأثِيرٌ أَصْلًا.
وَتَوَسَّطَ أَهْلُ السُّنَّةِ , فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَصْلُ الْفِعْلِ خَلَقَهُ اللهُ , وَلِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي الْمَقْدُورِ.
وَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ أَنَّ لَهَا تَأثِيرًا , لَكِنَّهُ يُسَمَّى كَسْبًا , وَبَسْطُ أَدِلَّتِهِمْ يَطُولُ.
وَفِي الْحَدِيث أَنَّ الْأَقْدَارَ غَالِبَةٌ، وَالْعَاقِبَةُ غَائِبَةٌ , فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَغْتَرَّ بِظَاهِرِ الْحَال، وَمِنْ ثَمَّ شُرِعَ الدُّعَاءُ بِالثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ , وَبِحُسْنِ الْخَاتِمَة , وَسَيَأتِي فِي حَدِيث عَلِيٍّ " اِعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " , وَظَاهِرُهُ قَدْ يُعَارِضُ حَدِيثَ اِبْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب، وَالْجَمْع بَيْنَهُمَا: حَمْلُ حَدِيث عَلِيٍّ عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَب , وَحَمْل حَدِيث الْبَابِ عَلَى الْأَقَلِّ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ جَائِزًا , تَعَيَّنَ طَلَبُ الثَّبَات. أ. هـ