للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(طس) , وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " جَمَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - بَيْنَ الْأُولَى وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ "، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: " صَنَعْتُ هَذَا لِكَيْ لَا تُحْرَجَ أُمَّتِي " (١)


(١) (طس) ٤١١٧، انظر الصَّحِيحَة: ٢٨٣٧ ,
وقال الألباني: واعلم أن الشوكاني - رحمه الله - ذهب إلى أن المقصود بالحديث إنما هو الجمع الصُّوري، وأطال البحث في ذلك جدا، وتكلف في تأويل الحديث وصرف معناه عن الجمع الحقيقي الثابت صراحة في بعض أحاديث الجمع في السفر. واحتج لذلك بأمور يطول الكلام عليها جدا.
والذي أريد أن ألفت النظر إليه إنما هو أنه لم يتنبه إلى أن قوله: " كَيْ لَا تُحْرَجَ أُمَّتِي " نص في الجمع الحقيقي، لأن رفع الحرج إنما يعني في الاصطلاح الشرعي رفع الإثم والحرام (راجع النهاية) كما في أحاديث أخرى، والأصل فيها المؤاخذة لولا الحرج، كمثل ترك صلاة الجمعة والجماعة من أجل المطر والبرد، كما في حديث ابن عباس لما أمر المؤذن يوم الجمعة أن يقول: " الصلاة في الرحال "، فأنكر ذلك بعضهم، فقال: " كأنكم أنكرتم هذا، إن هذا فعله من هو خير مني - يعني النبي صلى اللهُ عليه وسلَّم - إنها عزمة، إني كرهت أن أحرجكم " رواه البخاري (٦١٦ و٦٦٨ و٩٠١) , وحديث نعيم بن النحام قال: " نودي بالصبح في يوم بارد وهو في مرط امرأته، فقال: ليت المنادي نادى: " ومن قعد فلا حرج "، فنادى منادي النبي - صلى اللهُ عليه وسلَّم - في آخر أذانه: " ومن قعد فلا حرج ". رواه عبد الرزاق في " المصنف " (١/ ٥٠١ / ١٩٢٦) وأحمد (٤/ ٣٢٠) والبيهقي (١/ ٣٩٨ و٣٢٣) وأحد إسناديه صحيح
ومن المعلوم وجوب الحضور لصلاة الجمعة والجماعة، فإذا ثبت في الشرع أنه لَا حرج على من لم يحضر في المطر , كان ذلك حكما جديدا لولاه بقي الحكم السابق على ما كان عليه من العموم والشمول , فكذلك نقول: لما كان من المعلوم أيضا وجوب أداء كل صلاة في وقتها المحدد شرعا بفعله - صلى اللهُ عليه وسلَّم - وإمامة جبريل عليه السلام إياه، وقوله: " الوقت بين هذين "،
ثم ثبت أنه - صلى اللهُ عليه وسلَّم - جمع بين الصلاتين لرفع الحرج عن أمته ?، كان ذلك دليلا واضحا على أن جمعه - صلى اللهُ عليه وسلَّم - في ذلك الوقت كان جمعا حقيقيا، فحمله على الجمع الصوري والحالة هذه تعطيل للحديث كما هو ظاهر للمنصف المتأمل، إذ أنه لَا حرج في الجمع الصوري أصلا، ولذلك فلم يبالغ الإمام النووي رحمه الله حين قال في حمل الحديث على الجمع الصوري: " إنه باطل، لأنه مخالف للظاهر مخالفة لَا تحتمل ".
وإن مما يؤكد ذلك أمران: الأول: إن في حديث ابن عباس أن الجمع كان في غير خوف ولا مطر، ففيه إشارة قوية إلى أن جمعه - صلى اللهُ عليه وسلَّم - في المطر كان معروفا لدى الحاضرين، فهل كان الجمع في المطر صوريا أيضا؟! , اللهم لَا.
يخبرنا بذلك نافع مولى ابن عمر قال: كانت أمراؤنا إذا كانت ليلة مطيرة أبطأوا بالمغرب وعجلوا بالعشاء قبل أن يغيب الشفق، فكان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي معهم لَا يرى بذلك بأسا، قال عبيد الله (هو الراوي عن نافع): ورأيت القاسم وسالما يصليان معهم في مثل تلك الليلة. أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " (٢/ ٢٣٤) بسند صحيح غاية.
قلت: فقوله: " قبل أن يغيب الشفق " صريح في أن جمعهم كان جمعا حقيقيا، لأن مغيب الشفق آخر وقت المغرب كما في حديث ابن عمرو عند مسلم وغيره، وهو مخرج في " صحيح أبي داود " والأمر الآخر: أن التعليل المتقدم برفع الحرج قد ثبت أيضا في الجمع في السفر من حديث معاذ: " جمع رسول ? في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء "
قال أبو الطفيل: فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال: فقال: أراد أن لَا يحرج أمته. أخرجه مسلم، وابن خزيمة , وهو مخرج في " الإرواء " (٣/ ٣١) وفي رواية لأبي داود وغيره: أن الجمع كان تقديما تارة، وتأخيرا تارة.
وهو مخرج في المصدر المذكور برقم (٥٧٨) وثبت نحوه من حديث أنس وغيره، وهو مخرج هناك (٥٧٩). قلت: وإذا عرفت ما تقدم تأكدت إن شاء الله أن الصحيح في الجمع المعلل برفع الحرج إنما هو الجمع الحقيقي، لأن الجمع الصوري في أصله لَا حرج فيه مطلقا لَا في السفر ولا في الحضر , ولذلك كان من أدلة الجمهور على الحنفية الذين لَا يجيزون الجمع الحقيقي في السفر أيضا أنه ثبت فيه جمع التقديم أيضا، وهو يبطل تأويلهم الجمع بالجمع الصوري كما ثبت في بعض الأحاديث المشار إليها آنفا جمع التأخير بلفظ صريح يبطل أيضا تأويلهم، كحديث أنس عن النبي - صلى اللهُ عليه وسلَّم -: " إذا عجل عليه السفر يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر، فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق " متفق عليه.
وبهذه المناسبة أقول: يبدو لي من تعليل الجمع في حديث ابن عباس برفع الحرج أنه إنما يجوز الجمع حيث كان الحرج، وإلا فلا، وهذا يختلف باختلاف الأفراد وظروفهم، ولعل القائلين بجوازه مطلقا من السلف أشاروا إلى ما ذكرته حين اشترطوا أن لَا يُتَّخذ ذلك عادة كما تفعل الشيعة.
ولا أتصور ذلك إِلَّا لمن كان حريصا على أداء الصلوات في أوقاتها الخمسة، وفي المساجد مع الجماعة. والله أعلم. أ. هـ