للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(اللَّالَكائِي) , وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَو أَرَادَ اللهُ أَنْ لَا يُعْصَى , مَا خَلَقَ إِبْلِيسَ " (١)

الشرح (٢)


(١) قال الألباني: رواه اللالكائي في " السنة " ج١ص١٤١ , والبيهقي في " الأسماء والصفات ص١٥٧) , صَحِيح الْجَامِع: ٢٦٩٣ , الصَّحِيحَة: ١٦٤٢ ,
(٢) قال ابن القيم - رحمه الله - في كتابه (شفاء العليل) ص٢٣٦:
قولهم: أيُّ حكمة في خلق إبليس وجنوده؟ , ففي ذلك من الحكم ما لا يُحيط بتفصيله إلا الله.
فمنها: أن يُكْمِل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه , ومخالفته ومراغمته في الله , وإغاظته وإغاظة أوليائه , والاستعاذة به منه , والالتجاء إليه أن يعيذهم من شره وكيده , فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه.
ومنها: خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعدما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه , وسقوطه من المرتبة الملكية , إلى المنزلة الإبليسية يكون أقوى وأتم ولا ريب أن الملائكة لمَّا شاهدوا ذلك حصلت لهم عبودية أخرى للرب تعالى وخضوع آخر , وخوف آخر كما هو المُشاهد من حال عَبيد الملك إذا رأوه قد أهانَ أحدهم الإهانة التي بلغت منه كل مبْلغ , وهم يشاهدونه , فلا ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد.
ومنها: أنه سبحانه جعله عبرة لمن خالف أمره , وتكبر عن طاعته , وأصر على معصيته , كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه , أو عصى أمره , ثم تاب وندم , ورجع إلى ربه , فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب , وجعل هذا الأب عبرة لمن أصرَّ وأقام على ذنبه , وهذا الأب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه فلله كم في ضمن ذلك من الحِكم الباهرة , والآيات الظاهرة.
ومنها: أن يَظْهَرَ كمالُ قدرته في خلقٍ مثل جبريل والملائكة , وإبليس والشياطين وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه , فإنه خالق الأضداد , كالسماء والأرض , والضياء والظلام , والجنة والنار , والماء والنار , والحر والبرد والطيِّب والخبيث.
ومنها: أنَّ خَلْقَ أحدِ الضِّدَّيْنِ , مِن كمال حُسن ضِدِّه , فإن الضد إنما يظهر حُسنُه بضده , فلولا القبيح , لم تُعرف فضيلة الجميل , ولولا الفقر , لم يُعرف قدر الغنى.
ومنها: أنه سبحانه يحب أن يُشكر بحقيقة الشكر وأنواعه , ولا ريب أن أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده , وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن ليحصل لهم بدونه , فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قبل أن يخرج منها , وبين شكره بعد أن ابتُلِي بعدوه , ثم اجتباه ربه , وتاب عليه وقبله.
ومنها: أن المحبة والإنابة , والتوكل , والصبر , والرضا , ونحوها , أحب العبودية إلى الله سبحانه , وهذه العبودية إنما تتحقق بالجهاد , وبذل النفس لله وتقديم محبته على كل ما سواه , فالجهاد ذروة سنام العبودية , وأحبها إلى الرب سبحانه , فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها , التي لا يُحصي حِكَمَها وفوائدَها وما فيها من المصالح إلا الله.
ومنها: أن في خلق من يضاد رسله ويكذبهم ويعاديهم من تمام ظهور آياته وعجائب قدرته , ولطائف صنعه , ما وجوده أحب إليه , وأنفع لأوليائه من عدمه كما تقدم من ظهور آية الطوفان , والعصا , واليد , وفلق البحر , وإلقاء الخليل في النار , وأضعاف أضعاف ذلك من آياته وبراهين قدرته , وعلمه وحكمته , فلم يكن بدٌّ من وجود الأسباب التي يترتب عليها ذلك كما تقدم.
ومنها: أن من أسمائه: الخافض الرافع , المعز المذل , الحكم العدل , المنتقم وهذه الأسماء تستدعي متعلِّقات يظهر فيها أحكامها , كأسماء الإحسان والرزق والرحمة ونحوها , ولا بد من ظهور متعلِّقات هذه وهذه.
ومنها: أنه سبحانه يحب أن يُظْهِرَ لعباده حِلْمَه وصبرَه وأناته , وسعة رحمته وجوده , فاقتضى ذلك خلق من يُشرك به ويضادُّه في حُكمه , ويجتهد في مخالفته , ويسعى في مَساخطه , بل يتشبه به سبحانه , وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات , ويرزقه ويعافيه , ويمكِّن له من أسباب ما يلتذُّ به من أصناف النِّعَم , ويجيب دعاءه , ويكشف عنه السوء , ويعامله من بره وإحسانه بضدِّ ما يعامله هو به من كفره وشِركه وإساءته.
وهو سبحانه مع هذا الشتم له والتكذيب , يرزق الشاتم المكذِّب , ويعافيه , ويدفع عنه , ويدعوه إلى جنته , ويقبل توبته إذا تاب إليه , ويُبْدِلُهُ بِسَيِّآتِهِ حسنات ويلطف به في جميع أحواله ويؤهله لإرسال رسله , ويأمرهم بأن يلينوا له القول ويرفقوا به.
وفي الحديث الصحيح: " لو لم تذنبوا , لذهب الله بكم , ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون , فيغفر لهم " , فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته , اقتضى حمدُه وحكمتُه أن يخلُق خلقا يُظْهِرُ فيهم أحكامَها وآثارَها , فلمحبته للعفو, خلق من يَحْسُنُ العفوُ عنه, ولمحبته للمغفرة , خلق من يَغْفِرُ له ويحلم عنه , ويصبر عليه ولا يعاجله , ولمحبته لعدله وحكمته , خلق من يُظْهِرُ فيهم عدله وحكمته , ولمحبته للجود والإحسان والبر , خَلَقَ من يعاملُه بالإساءة والعصيان , وهو سبحانه يعاملُه بالمغفرة والإحسان , فلولا خَلْقُ من يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات , لفاتت هذه الحِكَمُ والمصالح وأضعافُها وأضعافُ أضعافِها , فتبارك الله رب العالمين , وأحكم الحاكمين , ذو الحكمة البالغة , والنِّعَمِ السَّابغة , الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته , وله في كل شيء حكمة باهرة , كما أن له فيه قدرة قاهرة وهدايات , إنما ذكرنا منه قطرة من بحر , وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيطَ بكمالِ حكمته في شيء من خلقه.
فإن يكن قد حصل بعدو الله إبليس من الشرور والمعاصي ما حصل , فكم حصل بسبب وجوده ووجود جنوده من طاعةٍ هي أحبُّ إلى الله وأرضى له , من جهادٍ في سبيله , ومخالفةِ هوى النفس وشهوتها له , وتَحَمُّلِ المشاقِّ والمَكاره في محبته ومَرضاته , وأحبُّ شيءٍ للحبيب أن يَرى مُحِبَّهُ يتحمَّل لأجله من الأذى والوَصَب ما يُصَدِّقُ مَحبَّتَهُ. انتهى كلامه رحمه الله.