للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(د) , وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا (١) أَوْ الرِّبَا " (٢)


(١) أوكسهما: أقلهما ثمناً , والوكس هو النقص.
(٢) (د) ٣٤٦١ , (ش) ٢٠٤٦١ , (حب) ٤٩٧٤، (ك) ٢٢٩٢ , انظر الصَّحِيحَة: ٢٣٢٦ , ثم قال الألباني: وقال البيهقي: " قال عبد الوهاب (يعني: ابن عطاء): " يعني: يقول: هو لك بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين " , وبهذا فسره الإمام ابن قتيبة، فقال في " غريب الحديث " (١/ ١٨): " ومن البيوع المنهي عنها شرطان في بيع، وهو أن يشتري الرجل السلعة إلى شهرين بدينارين , وإلى ثلاثة أشهر بثلاثة دنانير , وهو بمعنى بيتعتين في بيعة ", وفي معنى الحديث قول ابن مسعود: " الصفقة في الصفقتين ربا ". ولفظ ابن حبان: (لَا يحل صفقتان في صفقة , وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه " وسنده صحيح أيضا. وكذا رواه ابن نصر في " السنة " (٥٤). وزاد في رواية: " أن يقول الرجل: إن كان بنقد فبكذا وكذا، وإن كان إلى أجل فبكذا وكذا " , وهو رواية لأحمد (١/ ٣٩٨)، وجعله من قول سماك , الراوي عن عبد الرحمن بن عبد الله ثم إن الحديث رواه ابن نصر (٥٥) وعبد الرزاق في " المصنف " (٨/ ١٣٧ / ١٤٦٢٩) بسند صحيح عن شريح قال: فذكره من قوله مثل لفظ حديث الترجمة بالحرف الواحد. قلت: وسماك هو ابن حرب وهو تابعي معروف، قال: أدركت ثمانين صحابيا. فتفسيره للحديث ينبغي أن يقدم - عند التعارض - ولاسيما وهو أحد رواة هذا الحديث، والراوي أدرى بمرويه من غيره , لأن المفروض أنه تلقى الرواية من الذي رواها عنه مقرونا بالفهم لمعناها، فكيف وقد وافقه على ذلك جمع من علماء السلف وفقهائهم:
١ - ابن سيرين، روى أيوب عنه أنه كان يكره أن يقول: أبيعك بعشرة دنانير نقدا، أو بخمسة عشر إلى أجل. أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (٨/ ١٣٧ / ١٤٦٣٠) بسند صحيح عنه. وما كره ذلك إِلَّا لأنه نُهَي عنه.
٢ - طاووس قال: إذا قال: هو بكذا وكذا إلى كذا وكذا، وبكذا وكذا إلى كذا وكذا، فوقع المبيع على هذا، فهو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين. أخرجه عبد الرزاق أيضا (١٤٦٣١) بسند صحيح أيضا.
ورواه هو (١٤٦٢٦) وابن أبي شيبة (٦/ ١٢٠) من طريق ليث عن طاووس به مختصرا، دون قوله: " فوقع البيع .. " وزاد: " فباعه على أحدهما قبل أن يفارقه، فلا بأس به " , فهذا لَا يصح عن طاووس , لأن ليثا - وهو ابن أبي سليم - كان اختلط.
٣ - سفيان الثوري قال: إذا قلت: أبيعك بالنقد إلى كذا، وبالنسيئة بكذا وكذا، فذهب به المشتري، فهو بالخيار في البيعين، ما لم يكن وقع بيع على أحدهما، فإن وقع البيع هكذا، فهو مكروه , وهو بيعتان في بيعة وهو مردود , وهو منهي عنه، فإن وجدت متاعك بعينه أخذته، وإن كان قد استُهْلِك فلك أوكس الثمنين، وأبعد الأجلين. أخرجه عبد الرزاق (١٤٦٣٢) عنه.
٤ - الأوزاعي، نحوه مختصرا، وفيه: " فقيل له: فإن ذهب بالسلعة على ذينك الشرطين؟ , فقال: هي بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين ". ذكره الخطابي في " معالم السنن " (٥/ ٩٩). ثم جرى على سنتهم أئمة الحديث واللغة، فمنهم:
٥ - الإمام النسائي، فقال تحت باب " بيعتين في بيعة ": " وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمئة درهم نقدا، وبمئتي درهم نسيئة " , وبنحوه فسر أيضا حديث ابن عمرو: " لَا يحل شرطان في بيع "، وهو مخرج في " الإرواء " (١٣٠٥) وانظر " صحيح الجامع " (٧٥٢٠).
٦ - ابن حبان، قال في " صحيحه " (٧/ ٢٢٥ - الإحسان): " ذكر الزجر عن بيع الشيء بمئة دينار نسيئة، وبتسعين دينارا نقدا ". ذكر ذلك تحت حديث أبي هريرة باللفظ الثاني المختصر.
٧ - ابن الأثير في " غريب الحديث "، فإنه ذكر ذلك في شرح الحديثين المشار إليهما آنفا.
حكم بيع التقسيط:
وقد قيل في تفسير (البيعتين) أقوال أخرى، ولعله يأتي بعضها، وما تقدم أصح وأشهر، وهو ينطبق تماما على المعروف اليوم بـ (بيع التقسيط)، فما حكمه؟ ,
لقد اختلف العلماء في ذلك قديما وحديثا على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه باطل مطلقا. وهو مذهب ابن حزم.
الثاني: أنه لَا يجوز إِلَّا إذا تفرقا على أحدهما , ومثله إذا ذكر سعر التقسيط فقط.
الثالث: أنه لَا يجوز، ولكنه إذا وقع ودفع أقل السعرين جاز.
١ - دليل هذا المذهب ظاهر النهي في الأحاديث المتقدمة، فإن الأصل فيه أنه يقتضي البطلان , وهذا هو الأقرب إلى الصواب , لولا ما يأتي ذكره عند الكلام على دليل القول الثالث.
٢ - ذهب هؤلاء إلى أن النهي لجهالة الثمن، قال الخطابي: " إذا جهل الثمن بطل البيع , فأما إذا بَاتَّه على أحد الأمرين في مجلس العقد، فهو صحيح ".
وأقول: تعليلهم النهي عن بيعتين في بيعة بجهالة الثمن مردود , لأنه مجرد رأي مقابل النص الصريح في حديث أبي هريرة وابن مسعود أنه الربا , هذا من جهة , ومن جهة أخرى أن هذا التعليل مبني على القول بوجوب الإيجاب والقبول في البيوع، وهذا مما لَا دليل عليه في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل يكفي في ذلك التراضي وطيب النفس، فما أشعر بهما ودل عليهما فهو البيع الشرعي , وهو المعروف عند بعضهم ببيع المعاطاة "،
قال الشوكاني في " السيل الجرار " (٣/ ١٢٦): " وهذه المعاطاة التي يتحقق معها التراضي وطيبة النفس هي البيع الشرعي الذي أذن الله به، والزيادة عليه هي من إيجاب ما لم يوجبه الشرع " , وقد شرح ذلك شيخ الإسلام في " الفتاوي " (٢٩/ ٥ - ٢١) بما لَا مزيد عليه، فليرجع إليه من أراد التوسع فيه. قلت: وإذا كان كذلك، فالشاري حين ينصرف بما اشتراه، فإما أن ينقد الثمن، وإما أن يؤجل، فالبيع في الصورة الأولى صحيح، وفي الصورة الأخرى ينصرف وعليه ثمن الأجل - وهو موضع الخلاف - فأين الجهالة المدعاة؟ , وبخاصة إذا كان الدفع على أقساط، فالقسط الأول يدفع نقدا، والباقي أقساط حسب الاتفاق , فبطلت علة الجهالة أثرا ونظرا.
٣ - دليل القول الثالث حديث الترجمة وحديث ابن مسعود، فإنهما متفقان على أن " بيعتين في بيعة ربا "، فإذن الربا هو العلة، وحينئذ فالنهي يدور مع العلة وجودا وعدما، فإذا أخذ أعلى الثمنين، فهو ربا، وإذا أخذ أقلهما فهو جائز كما تقدم عن العلماء الذين نصوا أنه يجوز أن يأخذ بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين، فإنه بذلك لَا يكون قد باع بيعتين في بيعة، أَلَا ترى أنه إذا باع السلعة بسعر يومه، وخير الشاري بين أن يدفع الثمن نقدا أو نسيئة أنه لَا يصدق عليه أنه باع بيعتين في بيعة كما هو ظاهر، وذلك ما نص عليه - صلى الله عليه وسلم - في قوله المتقدم: " فله أوكسهما أو الربا "، فصحح البيع لذهاب العلة، وأبطل الزيادة لأنها ربا، وهو قول طاووس والثوري والأوزاعي رحمهم الله تعالى كما سبق , ومنه تعلم سقوط قول الخطابي في " معالم السنن " (٥/ ٩٧):
" لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث، وصحح البيع بأوكس الثمنين، إِلَّا شيء يحكى عن الأوزاعي، وهو مذهب فاسد، وذلك لما تتضمنه هذه العقدة من الغرر والجهل " , قلت: يعني الجهل بالثمن كما تقدم عنه , وقد علمت مما سلف أن قوله هو الفاسد , لأنه أقامه على علة لَا أصل لها في الشرع، بينما قول الأوزاعي قائم على نص الشارع كما تقدم، ولهذا تعقبه الشوكاني بقول في " نيل الأوطار " (٥/ ١٢٩): " ولا يخفى أن ما قاله الأوزاعي هو ظاهر الحديث , لأن الحكم له بالأوكس يستلزم صحة البيع " , قلت: الخطابي نفسه قد ذكر أن الأوزاعي قال بظاهر الحديث، فلا فرق بينه وبين الخطابي من هذه الحيثية , إِلَّا أن الخطابي تجرأ في الخروج عن هذا الظاهر , ومخالفته لمجرد علة الجهالة التي قالوها برأيهم خلافا للحديث والعجيب حقا أن الشوكاني تابعهم في ذلك بقوله: " والعلة في تحريم بيعتين في بيعة عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين .. ". وذلك لأن هذه المتابعة تتماشى مع الذين يوجبون الإيجاب والقبول في البيوع، والشوكاني يخالفهم في ذلك، ويقول بصحة بيع المعاطاة، وفي هذه الصورة (أعني المعاطاة) الاستقرار متحقق كما بينته آنفا , ثم إنه يبدو أن الشوكاني - كالخطابي - لم يقف على من قال بظاهر الحديث - كالأوزاعي - وإلا لما سكت على ما أفاده كلام الخطابي من تفرد الأوزاعي، وقد روينا لك بالسند الصحيح سلفه في ذلك - وهو التابعي الجليل طاووس - وموافقة الإمام الثوري له، وتبعهم الحافظ ابن حبان، فقال في " صحيحه " (٧/ ٢٢٦): " ذكر البيان بأن المشتري إذا اشترى بيعتين في بيعة على ما وصفنا وأراد مجانبة الربا كان له أوكسهما " , ثم ذكر حديث الترجمة، فهذا مطابق لما سبق من أقوال أولئك الأئمة، فليس الأوزاعي وحده الذي قال بهذا الحديث , أقول هذا بيانا للواقع، ولكي لَا يقول بعض ذوي الأهواء أو من لَا علم عنده، فيزعم أن مذهب الأوزاعي هذا شاذ! وإلا فلسنا - والحمد لله - من الذين لَا يعرفون الحق إِلَّا بكثرة القائلين به من الرجال، وإنما بالحق نعرف الرجال. والخلاصة أن القول الثاني هو أضعف الأقوال , لأنه لَا دليل عنده إِلَّا الرأي، مع مخالفة النص، ويليه القول الأول لأن ابن حزم , الذي قال به من ادعى أن حديث الترجمة منسوخ بأحاديث النهي عن بيعتين في بيعة، وهذه دعوى مردودة , لأنها خلاف الأصول، فإنه لَا يصار إلى النسخ إِلَّا إذا تعذر الجمع، وهذا من الممكن هنا بيسر، فانظر مثلا حديث ابن مسعود، فإنك تجده مطابقا لهذه الأحاديث، ولكنه يزيد عليها ببيان علة النهي، وأنها (الربا). وحديث الترجمة يشاركه في ذلك، ولكنه يزيد عليه فيصرح بأن البيع صحيح إذا أُخِذَ الأوكس، وعليه يدل حديث ابن مسعود أيضا , لكن بطريق الاستنباط على ما تقدم بيانه , واعلم أخي المسلم! أن هذه المعاملة التي فشت بين التجار اليوم - وهي بيع التقسيط، وأخذ الزيادة مقابل الأجل، وكلما طال الأجل زيد في الزيادة - إن هي إِلَّا معاملة غير شرعية من جهة أخرى لمنافاتها لروح الإسلام القائم على التيسير على الناس والرأفة بهم، والتخفيف عنهم كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " رحم الله عبدا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى، سمحا إذا اقتضى ". رواه البخاري. وقوله: من كان هينا، لينا، قريبا حرمه الله على النار ". رواه الحاكم وغيره، وقد سبق تخريجه برقم (٩٣٨). فلو أن أحدهم اتقى الله تعالى، وباع بالدَّيْن أو بالتقسيط بسعر النقد، لكان أربح له حتى من الناحية المادية , لأن ذلك مما يجعل الناس يقبلون عليه ويشترون من عنده ويبارك له في رزقه، مصداق قوله - عزَّ وجل -: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا , وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: ٢، ٣]. أ. هـ