(٢) قَوْلُ جَمِيلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: (إنِّي رَجُلٌ أَبْتَاعُ مِنْ الْأَرْزَاقِ الَّتِي يُعْطَى النَّاسُ بِالْجَارِ مَا شَاءَ اللهُ) يُرِيدُ أَنَّهُ يَبْتَاعُهَا مِنْ أَرْبَابِهَا الَّذِينَ خَرَجَتْ لَهُمْ الصُّكُوكُ بِهَا , إمَّا عَلَى صِفَةٍ يَصِفُونَهَا أَوْ عَلَى عَادَةٍ عَرَفُوهَا مِنْ طَعَامِ الصُّكُوكِ , تَقُومُ مَقَامَ مَعْرِفَةِ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ , فَقَدْ يَكُونُ الطَّعَامُ الْكَثِيرُ الْمَجْلُوبُ مِنْ بَلَدٍ يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ , فَتَتَّفِقُ أَجْزَاؤُهُ وَتَتَقَارَبُ فَيَنْقُلُ مِنْهُ الْأَجْزَاءَ وَالْأَحْمَالَ وَمَا يُعْرَفُ بِهِ جِنْسُهُ إِلَى مَا يَقْرَبُ مِنْهُ مِنْ الْبِلَادِ كَالْمَدِينَةِ , عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ السَّلَامِ مِنْ الْجَارِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ , فَكَانَ جَمِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَشْتَرِيهَا مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ , ثُمَّ كَانَ يَأخُذُ مِنْ النَّاسِ سَلَمًا فِي طَعَامٍ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ , وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يُوَفِّيَهُمْ مِنْهُ , وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ ذَلِكَ الطَّعَامُ , يَأخُذُ الْمُسَلَّمَ إِلَيْهِ ذَلِكَ سَنَةً عِنْدَ الْأَجَلِ , فَهَذَا لَا خِلَافَ فِي مَنْعِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ؛ لِأَنَّ جَمِيلَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ ابْتَاعَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ ثُمَّ يَسْتَوْفِيَهُ الْمُبْتَاعَ مِمَّنْ هُوَ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ هُوَ , وَالثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ الْمُسَلَّمِ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقْبِضَهُ وَيُوَفِّيَهُ إِيَّاهُ , فَفِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَلَا يُوَاعِدُ فِيهِ أَحَدًا وَلَا يَبِيعُ طَعَامًا يَنْوِي أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْهُ , وَرَوَاهُ فِي الْمَدَنِيَّةِ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ , وَقَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ عَنْ مَالِكٍ: هُوَ جَائِزٌ وَلَا تَضُرُّهُ النِّيَّةُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى طَعَامًا يَنْوِي أَنْ يَقْتَضِيَ مِنْهُ مَا عَلَيْهِ , وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ بَيْعَ الطَّعَامِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَالَى فِي هَذَا الطَّعَامِ عَقْدَيْ بَيْعٍ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا قَبْضٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْقَبْضُ بَعْدَ الْعَقْدَيْنِ , وَهَذَا عِنْدِي إنَّمَا يَحْرُمُ عَلَى الْبَائِعِ فِي خَاصَّتِهِ وَلَا يُفْسَخُ بِهَذَا عَقْدُ التَّبَايُعِ , إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَبَيَّنَهُ لَهُ , فَهَذَا مَحْضُ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ وَهَذَا لَا يُجِيزُهُ أَشْهَبُ وَلَا غَيْرُهُ وَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ طَعَامٌ وَلَمْ تَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إِلَى شِرَاءِ طَعَامٍ لَا يَقْبِضُهُ , لَمْ يَضُرَّهُ أَنْ يَنْوِيَ بِشِرَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ أَنْ يُوَفِّيَ طَعَامًا قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ مِنْ سَلَمٍ , وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي جَوَازُهُ , وَقَدْ رَوَى عِيسَى بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمَدَنِيَّةِ سَأَلْتُ ابْنَ الْقَاسِمِ عَمَّا كَرِهَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لِجَمِيلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حِينَ نَهَاهُ أَنْ يُوَفِّيَهُمْ مِنْ الْأَرْزَاقِ الَّتِي ابْتَاعَ , فَقَالَ: كَرِهَ الْإِضْمَارَ حِينَ أَضْمَرَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْهُ , وَاتَّقَى فِيهِ بَيْعَ الطَّعَامِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ. المنتقى - شرح الموطأ - (ج ٣ / ص ٤١٢)(٣) (ط) ١٣١٦
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute