للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(خد م) , وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا , وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا: فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا , وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تَنْصَحُوا لِمَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ، وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ (١) وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ (٢) وَإِضَاعَةِ الْمَالِ " (٣)

الشرح (٤)


(١) أَيْ: حِكَايَةُ أَقَاوِيلِ النَّاسِ , وَالْبَحْثِ عَنْهَا , فَيَقُول: قَالَ فُلَان كَذَا , وَقِيلَ كَذَا، وَالنَّهْيُ عَنْهُ إِمَّا لِلزَّجْرِ عَنْ الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ، وَإِمَّا لِشَيْءٍ مَخْصُوص مِنْهُ , وَهُوَ مَا يَكْرَهُهُ الْمَحْكِيّ عَنْهُ. فتح الباري (١٧/ ٩٨)
(٢) اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ , هَلْ هُوَ سُؤَالُ الْمَال، أَوْ السُّؤَالُ عَنْ الْمُشْكِلَاتِ وَالْمُعْضِلَات، أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ؟ , وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُوم وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كَثْرَةُ سُؤَالِ إِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ عَنْ تَفَاصِيلِ حَاله، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُهُ الْمَسْئُولُ غَالِبًا , وَثَبَتَ عَنْ جَمْعٍ مِنْ السَّلَفِ كَرَاهَةُ تَكَلُّفِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهَا عَادَةً أَوْ يَنْدُرُ جِدًّا، وَإِنَّمَا كَرِهُوا ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنَطُّعِ , وَالْقَوْلِ بِالظَّنِّ، إِذْ لَا يَخْلُو صَاحِبُهُ مِنْ الْخَطَأ , وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي اللِّعَان , فَكَرِهَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، وَكَذَا فِي التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِه تَعَالَى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فَذَلِكَ خَاصٌّ بِزَمَانِ نُزُولِ الْوَحْي , وَيُشِيرُ إِلَيْهِ حَدِيثُ " أَعْظَمُ النَّاسِ جُرْمًا عِنْدَ اللهِ , مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ , فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِه " ,
وَثَبَتَ أَيْضًا ذَمُّ السُّؤَالِ لِلْمَالِ , وَمَدْحِ مَنْ لَا يُلْحِفُ فِيهِ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاس إِلْحَافًا}.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم " إِنَّ الْمَسْأَلَة لَا تَحِلّ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْر مُدْقِع، أَوْ غُرْم مُفْظِع، أَوْ جَائِحَة "
وَفِي السُّنَن قَوْلُه - صلى الله عليه وسلم - لِابْنِ عَبَّاس: " إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ ".
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ جَائِز , لِأَنَّهُ طَلَبٌ مُبَاحٌ , فَأَشْبَهَ الْعَارِيَّة، وَحَمَلُوا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ عَلَى مَنْ سَأَلَ مِنْ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيّ فِي " شَرْح مُسْلِم ": اِتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ السُّؤَالِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَة , قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي سُؤَالِ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ عَلَى وَجْهَيْنِ , أَصَحُّهُمَا: التَّحْرِيمُ لِظَاهِرِ الْأَحَادِيث.
وَقَالَ الْفَاكِهَانِيّ: يُتَعَجَّبُ مِمَّنْ قَالَ بِكَرَاهَةِ السُّؤَالِ مُطْلَقًا , مَعَ وُجُودِ السُّؤَال فِي عَصْر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ السَّلَفِ الصَّالِح مِنْ غَيْرِ نَكِير، فَالشَّارِعُ لَا يُقِرُّ عَلَى مَكْرُوه.
قُلْت: يَنْبَغِي حَمْلُ حَالِ أُولَئِكَ عَلَى السَّدَاد، وَأَنَّ السَّائِلَ مِنْهُمْ غَالِبًا مَا كَانَ يَسْأَلُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ الشَّدِيدَة.
وَفِي قَوْله: " مِنْ غَيْر نَكِير " نَظَر , فَفِي الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَمِّ السُّؤَالِ كِفَايَةٌ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ. فتح الباري (ج ١٧ / ص ٩٨)
(٣) (خد) ٤٤٢ , (م) ١٧١٥ , صحيح الجامع: ١٨٩٥ , الصَّحِيحَة: ٦٨٥
(٤) قَالَ الْجُمْهُور: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ: السَّرَفُ فِي إِنْفَاقِهِ، وَالْأَقْوَى أَنَّهُ مَا أُنْفِقَ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ الْمَأذُونِ فِيهِ شَرْعًا , سَوَاءٌ كَانَتْ دِينِيَّة أَوْ دُنْيَوِيَّة , فَمَنَعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الله تَعَالَى جَعَلَ الْمَالَ قِيَامًا لِمَصَالِح الْعِبَاد، وَفِي تَبْذِيرِهَا تَفْوِيتٌ تِلْكَ الْمَصَالِح، إِمَّا فِي حَقِّ مُضَيِّعهَا , وَإِمَّا فِي حَقِّ غَيْره.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ كَثْرَةُ إِنْفَاقِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ لِتَحْصِيلِ ثَوَابِ الْآخِرَة , مَا لَمْ يُفَوِّتْ حَقًّا أُخْرَوِيًّا أَهَمَّ مِنْهُ.
وَالْحَاصِل فِي كَثْرَة الْإِنْفَاقِ ثَلَاثَةُ أَوْجُه:
الْأَوَّل: إِنْفَاقُهُ فِي الْوُجُوهِ الْمَذْمُومَة شَرْعًا , فَلَا شَكّ فِي مَنْعِه.
وَالثَّانِي: إِنْفَاقُهُ فِي الْوُجُوهِ الْمَحْمُودَة شَرْعًا , فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِه مَطْلُوبًا بِالشَّرْطِ الْمَذْكُور.
وَالثَّالِث: إِنْفَاقُه فِي الْمُبَاحَاتِ بِالْأَصَالَةِ , كَمَلَاذِّ النَّفْس، فَهَذَا يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ يَلِيق بِحَالِ الْمُنْفِقِ , وَبِقَدْرِ مَالِه، فَهَذَا لَيْسَ بِإِسْرَافٍ.
وَالثَّانِي: مَا لَا يَلِيقُ بِهِ عُرْفًا، وَهُوَ يَنْقَسِمُ أَيْضًا إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدهمَا: مَا يَكُونُ لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ, إِمَّا نَاجِزَةٍ , أَوْ مُتَوَقَّعَة، فَهَذَا لَيْسَ بِإِسْرَافٍ.
وَالثَّانِي: مَا لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِسْرَاف. وَجَزَمَ الْبَاجِيّ مِنْ الْمَالِكِيَّة بِمَنْعِ اِسْتِيعَابِ جَمِيعِ الْمَالِ بِالصَّدَقَةِ , قَالَ:
وَيُكْرَهُ كَثْرَةُ إِنْفَاقِهِ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَلَا بَأسَ بِهِ إِذَا وَقَعَ نَادِرًا لِحَادِثٍ يَحْدُث , كَضَيْفٍ , أَوْ عِيدٍ , أَوْ وَلِيمَة.
وَمِمَّا لَا خِلَافَ فِي كَرَاهَتِهِ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْبِنَاءِ زِيَادَةً عَلَى قَدْر الْحَاجَة، وَلَا سِيَّمَا إِنْ أَضَافَ إِلَى ذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي الزَّخْرَفَة , وَأَمَّا إِضَاعَةُ الْمَالِ فِي الْمَعْصِيَة , فَلَا يَخْتَصُّ بِارْتِكَابِ الْفَوَاحِش، بَلْ يَدْخُلُ فِيهَا سُوءُ الْقِيَامِ عَلَى الرَّقِيقِ وَالْبَهَائِمِ حَتَّى يَهْلِكُوا، وَدَفْعِ مَالِ مَنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ إِلَيْهِ، وَقَسْمُهُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِجُزْئِهِ , كَالْجَوْهَرَةِ النَّفِيسَة.
فَظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا , وَكَانَ بَيْن ذَلِكَ قَوَامًا} أَنَّ الزَّائِدَ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْمُنْفِقِ إِسْرَافٌ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ حُسْنِ الْخُلُق، فَقَدْ تَتَبَّعَ جَمِيعَ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَة , وَالْخِلَالَ الْجَمِيلَة. فتح الباري (ج ١٧ / ص ٩٨)