(٢) اِخْتَلَفَ نَظَر الْعُلَمَاء فِي هَذَا الْحُكْم، فَظَاهِر تَرْجَمَة الْبُخَارِيّ حَمْله عَلَى مَنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ وَلَمْ يُفَسِّرهُ , فَإِنَّهُ لَا يَجِب عَلَى الْإِمَام أَنْ يُقِيمهُ عَلَيْهِ إِذَا تَابَ، وَحَمَلَهُ الْخَطَّابِيُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكُون النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - اِطَّلَعَ بِالْوَحْيِ عَلَى أَنَّ الله قَدْ غَفَرَ لَهُ لِكَوْنِهَا وَاقِعَة عَيْن، وَإِلَّا لَكَانَ يَسْتَفْسِرهُ عَنْ الْحَدّ وَيُقِيمهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَيْضًا: فِي هَذَا الْحَدِيث إِنَّهُ لَا يَكْشِف عَنْ الْحُدُود بَلْ يَدْفَع مَهْمَا أَمْكَنَ، وَهَذَا الرَّجُل لَمْ يُفْصِح بِأَمْرٍ يَلْزَمُهُ بِهِ إِقَامَةُ الْحَدّ عَلَيْهِ , فَلَعَلَّهُ أَصَابَ صَغِيرَة ظَنَّهَا كَبِيرَة تُوجِب الْحَدّ فَلَمْ يَكْشِفهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ , لِأَنَّ مُوجِب الْحَدّ لَا يَثْبُت بِالِاحْتِمَالِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَفْسِرهُ إِمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَدْخُل فِي التَّجْسِيس الْمَنْهِيّ عَنْهُ , وَإِمَّا إِيثَارًا لِلسَّتْرِ , وَرَأَى أَنَّ فِي تَعَرُّضه لِإِقَامَةِ الْحَدّ عَلَيْهِ نَدَمًا وَرُجُوعًا، وَقَدْ اِسْتَحَبَّ الْعُلَمَاء تَلْقِينَ مَنْ أَقَرَّ بِمُوجِبِ الْحَدّ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ , إِمَّا بِالتَّعْرِيضِ , وَإِمَّا بِأَوْضَحَ مِنْهُ لِيَدْرَأ عَنْهُ الْحَدّ، وَجَزَمَ النَّوَوِيّ وَجَمَاعَة أَنَّ الذَّنْب الَّذِي فَعَلَهُ كَانَ مِنْ الصَّغَائِر , بِدَلِيلِ أَنَّ فِي بَقِيَّة الْخَبَر أَنَّهُ كَفَّرَتْهُ الصَّلَاة بِنَاء عَلَى أَنَّ الَّذِي تُكَفِّرُهُ الصَّلَاةُ مِنْ الذُّنُوبِ الصَّغَائِرُ لَا الْكَبَائِرُ، وَهَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ، وَقَدْ تُكَفِّرُ الصَّلَاةُ بَعْضَ الْكَبَائِرِ كَمَنْ كَثُرَ تَطَوُّعُهُ مَثَلًا بِحَيْثُ صَلَحَ لِأَنْ يُكَفِّر عَدَدًا كَثِيرًا مِنْ الصَّغَائِر وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ الصَّغَائِر شَيْء أَصْلًا أَوْ شَيْء يَسِير وَعَلَيْهِ كَبِيرَة وَاحِدَة مَثَلًا , فَإِنَّهَا تُكَفِّر عَنْهُ ذَلِكَ , لِأَنَّ الله لَا يُضِيع أَجْر مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا , قُلْت: وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر الْبَرْزَنْجِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الْمَلِك الْوَاسِطِيّ عَنْ عَمْرو بْن عَاصِم بِسَنَدٍ حَدِيثُ الْبَاب بِلَفْظِ " أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُول الله إِنِّي زَنَيْت فَأَقِمْ عَلَيَّ الْحَدّ " الْحَدِيث فَحَمَلَهُ بَعْض الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ ظَنَّ مَا لَيْسَ زِنًا زِنًا , فَلِذَلِكَ كَفَّرَتْ ذَنْبَهُ الصَّلَاةُ، وَقَدْ يَتَمَسَّك بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ إِذَا جَاءَ تَائِبًا سَقَطَ عَنْهُ الْحَدّ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الرَّاوِي عَبَّرَ بِالزِّنَا مِنْ قَوْله أَصَبْت حَدًّا فَرَوَاهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي ظَنَّهُ , وَالْأَصْل مَا فِي الصَّحِيح , فَهُوَ الَّذِي اِتَّفَقَ عَلَيْهِ الْحُفَّاظ عَنْ عَمْرو بْن عَاصِم بِسَنَدِهِ الْمَذْكُور، وَيَحْتَمِل أَنْ يُخْتَصّ ذَلِكَ بِالْمَذْكُورِ لِإِخْبَارِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الله قَدْ كَفَّرَ عَنْهُ حَدَّهُ بِصَلَاتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَف إِلَّا بِطَرِيقِ الْوَحْي فَلَا يَسْتَمِرّ الْحُكْم فِي غَيْره إِلَّا فِي مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مِثْله فِي ذَلِكَ , وَقَدْ اِنْقَطَعَ عِلْمُ ذَلِكَ بِانْقِطَاعِ الْوَحْي بَعْد النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِهِ صَاحِب الْهُدَى , فَقَالَ لِلنَّاسِ فِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ - يَعْنِي الْمَذْكُور قَبْل - ثَلَاثُ مَسَالِكَ: أَحَدهَا أَنَّ الْحَدّ لَا يَجِب إِلَّا بَعْد تَعْيِينه وَالْإِصْرَار عَلَيْهِ مِنْ الْمُقِرّ بِهِ، وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصّ بِالرَّجُلِ الْمَذْكُور فِي الْقِصَّة، وَالثَّالِث أَنَّ الْحَدّ يَسْقُط بِالتَّوْبَةِ، قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ الْمَسَالِك، وَقَوَّاهُ بِأَنَّ الْحَسَنَة الَّتِي جَاءَ بِهَا مِنْ اِعْتِرَافه طَوْعًا بِخَشْيَةِ الله وَحْده تُقَاوِم السَّيِّئَة الَّتِي عَمِلَهَا، لِأَنَّ حِكْمَة الْحُدُود الرَّدْع عَنْ الْعَوْد، وَصَنِيعه ذَلِكَ دَالّ عَلَى اِرْتِدَاعه , فَنَاسَبَ رَفْع الْحَدّ عَنْهُ لِذَلِكَ وَالله أَعْلَمُ. فتح الباري (ج ١٩ / ص ٢٤٨)(٣) (خ) ٦٤٣٧ , (م) ٤٤ - (٢٧٦٤) , (عب) ١٨٩٤٠، (ك) ٧٦٤٨
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute