للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(خ م) , وَعَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ اللهَ - عز وجل - حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ (١) وَوَأدَ الْبَنَاتِ (٢) وَمَنْعٍ , وَهَاتِ (٣) وَكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ (٤) وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ (٥) وَإِضَاعَةَ الْمَالِ " (٦)

الشرح (٧)


(١) قِيلَ: خَصَّ الْأُمَّهَاتِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْعُقُوقَ إِلَيْهِنَّ أَسْرَعُ مِنْ الْآبَاءِ , لِضَعْفِ النِّسَاءِ , وَلِيُنَبِّه عَلَى أَنَّ بِرَّ الْأُمِّ مُقَدَّم عَلَى بِرِّ الْأَبِ فِي التَّلَطُّفِ وَالْحُنُوِّ وَنَحْو ذَلِكَ. فتح الباري (٧/ ٢٩٢)
(٢) الوأد: عادة جاهلية، كان إذا وُلِدَ لأحَدِهم في الجاهلية بنتٌ دفَنَها في التراب وهي حَيَّة. الأدب المفرد للبخاري - (١/ ٤٤٧)
(٣) " مَنْعٍ " الْمُرَادُ: مَنْعُ مَا أَمَرَ اللهُ أَنْ لَا يُمْنَعَ , وَ" هَاتِ " فِعْلُ أَمْرٍ مَجْزُومٌ وَالْمُرَادُ: النَّهْيُ عَنْ طَلَبِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ طَلَبَهُ. سبل السلام - (٧/ ٦٦)
(٤) أَيْ: حِكَايَةُ أَقَاوِيلِ النَّاس , وَالْبَحْث عَنْهَا , فَيَقُول: قَالَ فُلَانٌ كَذَا , وَقِيلَ كَذَا، وَالنَّهْيُ عَنْهُ إِمَّا لِلزَّجْرِ عَنْ الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ، وَإِمَّا لِشَيْءٍ مَخْصُوص مِنْهُ , وَهُوَ مَا يَكْرَهُهُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ. فتح الباري (١٧/ ٩٨)
(٥) اخْتُلِفَ فِي الْمُرَاد مِنْهُ , هَلْ هُوَ سُؤَالُ الْمَال، أَوْ السُّؤَالُ عَنْ الْمُشْكِلَات وَالْمُعْضِلَات، أَوْ أَعَمّ مِنْ ذَلِكَ؟ , وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُوم , وَقَدْ ذَهَبَ بَعْض الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ الْمُرَاد بِهِ كَثْرَةُ سُؤَالِ إِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ عَنْ تَفَاصِيلِ حَاله، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُهُ الْمَسْئُولُ غَالِبًا , وَثَبَتَ عَنْ جَمْعٍ مِنْ السَّلَفِ كَرَاهَةُ تَكَلُّفِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهَا عَادَةً , أَوْ يَنْدُرُ جِدًّا , وَإِنَّمَا كَرِهُوا ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنَطُّع , وَالْقَوْلِ بِالظَّنِّ إِذْ لَا يَخْلُو صَاحِبُه مِنْ الْخَطَأ.
وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي اللِّعَانِ , فَكَرِهَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَسَائِلُ وَعَابَهَا، وَكَذَا فِي التَّفْسِير فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فَذَلِكَ خَاصٌّ بِزَمَانِ نُزُول الْوَحْي، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ حَدِيث: " أَعْظَم النَّاسِ جُرْمًا عِنْد اللهِ مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ , فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِه ".
وَثَبَتَ أَيْضًا ذَمُّ السُّؤَالِ لِلْمَالِ , وَمَدْحِ مَنْ لَا يُلْحِف فِيهِ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاس إِلْحَافًا} , وَفِي صَحِيح مُسْلِم " إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِع، أَوْ غُرْمٍ مُفْظِع، أَوْ جَائِحَة ".
وَفِي السُّنَنِ قَوْلُه - صلى الله عليه وسلم - لِابْنِ عَبَّاس: " إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ الله ".
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْد الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ جَائِز , لِأَنَّهُ طَلَبٌ مُبَاحٌ , فَأَشْبَهَ الْعَارِيَّة، وَحَمَلُوا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ عَلَى مَنْ سَأَلَ مِنْ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.
لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيّ فِي " شَرْح مُسْلِم ": اِتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ السُّؤَالِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَة , قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي سُؤَالِ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ عَلَى وَجْهَيْنِ , أَصَحُّهمَا: التَّحْرِيم , لِظَاهِرِ الْأَحَادِيث.
وَقَالَ الْفَاكِهَانِيّ: يُتَعَجَّب مِمَّنْ قَالَ بِكَرَاهَةِ السُّؤَالِ مُطْلَقًا مَعَ وُجُودِ السُّؤَالِ فِي عَصْرِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ غَيْرِ نَكِير، فَالشَّارِعُ لَا يُقِرُّ عَلَى مَكْرُوه.
قُلْت: يَنْبَغِي حَمْلُ حَالِ أُولَئِكَ عَلَى السَّدَاد، وَأَنَّ السَّائِلَ مِنْهُمْ غَالِبًا مَا كَانَ يَسْأَلُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ الشَّدِيدَة.
وَفِي قَوْله: " مِنْ غَيْرِ نَكِير " نَظَر , فَفِي الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَمِّ السُّؤَالِ كِفَايَةٌ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ. فتح الباري (ج ١٧ / ص ٩٨)
(٦) (خ) ٢٢٧٧ , (م) ٥٩٣ , (حم) ١٨١٧٢
(٧) قَالَ الْجُمْهُور: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ: السَّرَفُ فِي إِنْفَاقِهِ.
وَالْأَقْوَى أَنَّهُ مَا أُنْفِقَ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ الْمَأذُونِ فِيهِ شَرْعًا , سَوَاءٌ كَانَتْ دِينِيَّة أَوْ دُنْيَوِيَّة , فَمَنَعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَالَ قِيَامًا لِمَصَالِحِ الْعِبَاد، وَفِي تَبْذِيرِهَا تَفْوِيتُ تِلْكَ الْمَصَالِح، إِمَّا فِي حَقِّ مُضَيِّعِهَا , وَإِمَّا فِي حَقِّ غَيْرِه، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ كَثْرَةُ إِنْفَاقِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ لِتَحْصِيلِ ثَوَابِ الْآخِرَة , مَا لَمْ يُفَوِّتْ حَقًّا أُخْرَوِيًّا أَهَمَّ مِنْهُ, وَالْحَاصِلُ فِي كَثْرَةِ الْإِنْفَاقِ ثَلَاثَة أَوْجُه: الْأَوَّل: إِنْفَاقُه فِي الْوُجُوهِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا , فَلَا شَكَّ فِي مَنْعه.
وَالثَّانِي: إِنْفَاقُهُ فِي الْوُجُوهِ الْمَحْمُودَة شَرْعًا , فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ مَطْلُوبًا بِالشَّرْطِ الْمَذْكُور.
وَالثَّالِث: إِنْفَاقُهُ فِي الْمُبَاحَاتِ بِالْأَصَالَةِ , كَمَلَاذِّ النَّفْس، فَهَذَا يَنْقَسِم إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدهمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِحَالِ الْمُنْفِقِ وَبِقَدْرِ مَاله، فَهَذَا لَيْسَ بِإِسْرَافٍ.
وَالثَّانِي: مَا لَا يَلِيقُ بِهِ عُرْفًا، وَهُوَ يَنْقَسِمُ أَيْضًا إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهمَا: مَا يَكُونُ لِدَفْعِ مَفْسَدَة , إِمَّا نَاجِزَةٍ أَوْ مُتَوَقَّعَة، فَهَذَا لَيْسَ بِإِسْرَافٍ وَالثَّانِي: مَا لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِسْرَاف. وَجَزَمَ الْبَاجِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّة بِمَنْعِ اِسْتِيعَاب جَمِيع الْمَال بِالصَّدَقَةِ , قَالَ: وَيُكْرَه كَثْرَة إِنْفَاقه فِي مَصَالِح الدُّنْيَا، وَلَا بَأس بِهِ إِذَا وَقَعَ نَادِرًا لِحَادِثٍ يَحْدُث , كَضَيْفٍ أَوْ عِيدٍ أَوْ وَلِيمَة.
وَمِمَّا لَا خِلَافَ فِي كَرَاهَتِهِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْبِنَاءِ زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ الْحَاجَة، وَلَا سِيَّمَا إِنْ أَضَافَ إِلَى ذَلِكَ الْمُبَالَغَة فِي الزَّخْرَفَة ,
وَأَمَّا إِضَاعَةُ الْمَالِ فِي الْمَعْصِيَة , فَلَا يَخْتَصُّ بِارْتِكَابِ الْفَوَاحِش، بَلْ يَدْخُلُ فِيهَا سُوءُ الْقِيَامِ عَلَى الرَّقِيقِ وَالْبَهَائِم حَتَّى يَهْلِكُوا، وَدَفْعُ مَالِ مَنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ إِلَيْهِ، وَقَسْمُهُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِجُزْئِهِ , كَالْجَوْهَرَةِ النَّفِيسَة , فَظَاهِر قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْن ذَلِكَ قَوَامًا} أَنَّ الزَّائِدَ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْمُنْفِق إِسْرَاف.
قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ حُسْنِ الْخُلُق، فَقَدْ تَتَبَّعَ جَمِيعَ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَة , وَالْخِلَالِ الْجَمِيلَة. فتح الباري (ج ١٧ / ص ٩٨)