للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(خ م) , وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (" مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا) (١) (حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ") (٢) وفي رواية: " مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ، لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ , وَإِنْ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ " (٣)

الشرح (٤)


(١) (م) ٢٠٠٣ , (خ) ٥٢٥٣
(٢) (خ) ٥٢٥٣ , (م) ٢٠٠٣
(٣) (هب) ٥٥٧٣ , (جة) ٣٣٧٣ , انظر الصَّحِيحَة: ٢٦٣٤
(٤) قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْبَغْوِيّ فِي " شَرْح السُّنَّة ": مَعْنَى الْحَدِيث: لَا يَدْخُل الْجَنَّة، لِأَنَّ الْخَمْرَ شَرَابُ أَهْل الْجَنَّة، فَإِذَا حُرِمَ شُرْبَهَا , دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُل الْجَنَّة.
وَقَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: هَذَا وَعِيدٌ شَدِيد , يَدُلّ عَلَى حِرْمَان دُخُولِ الْجَنَّة، لِأَنَّ الله تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْجَنَّة أَنْهَار الْخَمْرِ لَذَّةً لِلشَّارِبِينَ، وَأَنَّهُمْ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ , فَلَوْ دَخَلَهَا - وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ فِيهَا خَمْرًا , أَوْ أَنَّهُ حُرِمَهَا عُقُوبَة لَهُ - لَزِمَ وُقُوعُ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ فِي الْجَنَّة، وَلَا هَمَّ فِيهَا وَلَا حُزْن، وَإِنْ لَمْ يَعْلَم بِوُجُودِهَا فِي الْجَنَّة , وَلَا أَنَّهُ حُرِمَهَا عُقُوبَة لَهُ , لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي فَقْدِهَا أَلَم فَلِهَذَا قَالَ بَعْض مَنْ تَقَدَّمَ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَصْلًا.
قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبٌ غَيْرُ مَرْضِيّ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْحَدِيث: أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّة بِالْعَفْوِ , ثُمَّ لَا يَشْرَبُ فِيهَا خَمْرًا , وَلَا تَشْتَهِيهَا نَفْسُه , وَإِنْ عَلِمَ بِوُجُودِهَا فِيهَا، وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث أَبِي سَعِيد مَرْفُوعًا: " مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا , لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَة "، وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ , لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّة , وَلَمْ يَلْبَسْهُ هُوَ , فلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَسْرَة , وَلَا يَكُون تَرْكُ شَهْوَتِهِ إِيَّاهَا عُقُوبَةً فِي حَقِّه، بَلْ هُوَ نَقْصُ نَعِيمٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ هُوَ أَتَمُّ نَعِيمًا مِنْهُ , كَمَا تَخْتَلِف دَرَجَاتهمْ وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ لَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فِي الْجَنَّة , وَلَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِيهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اِسْتَعْجَلَ مَا أُمِرَ بِتَأخِيرِهِ وَوُعِدَ بِهِ , فَحُرِمَهُ عِنْد مِيقَاته، كَالْوَارِثِ , فَإِنَّهُ إِذَا قَتَلَ مُوَرِّثَه فَإِنَّهُ يُحْرَمُ مِيرَاثَهُ لِاسْتِعْجَالِهِ.
وَفِي الْحَدِيث أَنَّ التَّوْبَةَ تُكَفِّرُ الْمَعَاصِي الْكَبَائِر، وَهُوَ فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْكُفْرِ قَطْعِيّ , وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الذُّنُوبِ خِلَافٌ بَيْن أَهْل السُّنَّة , هَلْ هُوَ قَطْعِيّ , أَوْ ظَنِّيّ.
قَالَ النَّوَوِيّ: الْأَقْوَى أَنَّهُ ظَنِّيّ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَنْ اِسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَة , عَلِمَ أَنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الصَّادِقِينَ قَطْعًا.
وَفِيهِ أَنَّ الْوَعِيدَ يَتَنَاوَلُ مَنْ شَرِبَ الْخَمْر , وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ السُّكْر، لِأَنَّهُ رَتَّبَ الْوَعِيدَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مُجَرَّدِ الشُّرْبِ مِنْ غَيْرِ قَيْد , وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الْخَمْرِ الْمُتَّخَذِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَب , وَكَذَا فِيمَا يُسْكِرُ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَمَّا مَا لَا يُسْكِرُ مِنْ غَيْرِهَا , فَالْأَمْر فِيهِ كَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُور، وَالله أَعْلَم. فتح الباري (١٦/ ٤٤)