(٢) قال الألباني في آداب الزفاف ص١٩٠: قال قائلٌ: لا يُتصور أن تلبس عائشة - رضي الله عنها - الذهب المحلَّق ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل يوم معها وفي بيتها , ثم لا ينهاها عنه. قلت: هذه مغالطة ظاهرة - ولعلها غير مقصودة - إذ ليس في الأثر المتقدم أن عائشة لبسته على علمٍ منه - صلى الله عليه وسلم - بل فيه أن القاسم بن محمد رآها تلبسه , فمعنى ذلك أن لبسها إياه إنما كان بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لأن القاسم لم يُدركْهُ - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال عطفا على ما سبق: " أيَنهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يبلغها؟ , فهذا مستحيل قطعا ". قلت: لا استحالة في ذلك إلا نظرا , وهذا ليس يهمنا , لأن الواقع خلافه فكم من سنن فعلية وأقوال نبوية خَفِيَت على كبار الصحابة - رضي الله عنهم - ولولا صحة السند بذلك عنهم , لقُلْنا كما قال هذا القائل , وعلى كل حال , فقد ظهر لكل من له قلب أنَّ ما كان يظنُّه مما لا يُتَصَوَّر , أو أنه " مستحيل قطعا " قد أثبتناه بالأسانيد الصحيحة , ولازم ذلك أن لا يَلْتَفِتُ المسلم إلى أيِّ قول يخالف ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - مهما كان شأنُ قائِلِه , فضلا , وعلما , وصلاحا, لانتفاء العصمة, وهذا من الأسباب التي تُشجِّعُنا على الاستمرار في خُطتنا من التمسُّك بالكتاب والسنة , وعدم الاعتداد بما سواهما. هذا , ولعل فيمن ينصر السنة ويعمل بها ويدعو إليها , من يتوقفُ عن العمل بهذه الأحاديث , بعذرِ أنه لا يعلمُ أحدا من السلف قال بها. فليعلم هؤلاء الأحبة أن هذا العذرَ قد يكون مقبولا في بعض المسائل التي يكون طريق تقريرها إنما هو الاستنباطُ والاجتهادُ فحسب , لأن النفسَ حينئذ لا تطمئنُّ لها , خَشْيَةَ أن يكون الاستنباطُ خطأً , ولا سيما إذا كان المستنبطُ من هؤلاء المتأخرين الذين يقرِّرُون أمورًا لم يَقُلْ بها أحد من المسلمين , بدعوى أن المصلحة تقتضي تشريعها , دون أن ينظروا إلى موافقتها لنصوصِ الشَّرع أولا , مثل إباحةِ بعضِهِم للربا الذي سمَّاه بـ (الربا الاستهلاكي) واليانصيب الخيري - زعموا - ونحوهما , أما مسألتنا فليست من هذا القبيل , فإن فيها نصوصا صريحة مُحْكَمة لم يأتِ ما يَنْسَخُها - كما سبق بيانه- فلا يجوزُ ترك العملِ بها للعذرِ المذكور ولا سيما أننا قد ذكرنا من قال بها , مثل أبي هريرة - رضي الله عنه - وولي الله الدهلوي وغيرهما كما تقدم , ولا بد أن يكون هناك غير هؤلاء ممن عمل بهذه الأحاديث لم نعرفهم , لأن الله تعالى لم يتعهد لنا بحفظ أسماء كل من عمل بنصٍّ ما , من كتاب أو سنة , وإنما تعهَّد بِحِفظهما فقط , كما قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} , فوجب العملُ بالنص , سواء علمنا من قال به , أو لم نعلم , ما دام لم يَثْبُت نَسْخُه , كما هو الشأن في مسألتنا هذه. وأختمُ هذا البحثَ بكلمة طيبة للعلامة المحقق ابن القيم - رحمه الله - تعالى لها مَسَاسٌ كبير بما نحن فيه , قال في (إعلام الموقعين) (٣/ ٤٦٤ - ٤٦٥): " وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الطَّيِّبُ يَشْتَدُّ نَكِيرُهُمْ وَغَضَبُهُمْ عَلَى مَنْ عَارَضَ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِرَأيٍ , أَوْ قِيَاسٍ , أَوْ اسْتِحْسَانٍ , أَوْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَيَهْجُرُونَ فَاعِلَ ذَلِكَ، وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَضْرِبُ لَهُ الْأَمْثَالَ، وَلَا يُسَوِّغُونَ غَيْرَ الِانْقِيَادِ لَهُ , وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّلَقِّي بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَلَا يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمْ التَّوَقُّفُ فِي قَبُولِهِ , حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ عَمَلٌ , أَوْ قِيَاسٌ , أَوْ يُوَافِقَ قَوْلَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، بَلْ كَانُوا عَامِلِينَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: ٣٦] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: ٦٥] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: ٣] وَأَمْثَالُهَا. فَدُفِعْنَا إلَى زَمَانٍ إذَا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ: ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا. يَقُولُ: مَنْ قَالَ بِهَذَا؟ , وَيَجْعَلُ هَذَا دَفْعًا فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ، أَوْ يَجْعَلُ جَهْلَهُ بِالْقَائِلِ بِهِ حُجَّةً لَهُ فِي مُخَالَفَتِهِ , وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَلَوْ نَصَحَ نَفْسَهُ , لَعَلِمَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ دَفْعُ سُنَنِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ هَذَا الْجَهْلِ. وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ عُذْرُهُ فِي جَهْلِهِ؛ إذْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى مُخَالَفَةِ تِلْكَ السُّنَّةِ، وَهَذَا سُوءُ ظَنٍّ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، إذْ يَنْسُبُهُمْ إلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مُخَالَفَةِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ عُذْرُهُ فِي دَعْوَى هَذَا الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ جَهْلُهُ وَعَدَمُ عِلْمِهِ بِمَنْ قَالَ بِالْحَدِيثِ، فَعَادَ الْأَمْرُ إلَى تَقْدِيمِ جَهْلِهِ عَلَى السُّنَّةِ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ. أ. هـ