للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(ت جة حم) , وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ - رضي الله عنه - قَالَ: (أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ , فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَنِي , فَقَالَ: " إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ لَكَ) (١) (وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ) (٢) (فَهُوَ أَفْضَلُ لِآخِرَتِكَ " , قَالَ: لَا , بَلْ ادْعُ اللهَ لِي) (٣) (" فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ , وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ , وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ) (٤) (بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - نَبِيِّ الرَّحْمَةِ) (٥) (يَا مُحَمَّدُ) (٦) (إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ (٧) إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِيَ (٨) اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ (٩) فِيَّ (١٠) ") (١١) (قَالَ: فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرَأَ) (١٢).

الشرح (١٣)


(١) (حم) ١٧٢٧٩ , وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(٢) (ت) ٣٥٧٨ , (جة) ١٣٨٥
(٣) (حم) ١٧٢٨٠ , وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(٤) (جة) ١٣٨٥ , (ت) ٣٥٧٨
(٥) (ت) ٣٥٧٨
(٦) (جة) ١٣٨٥
(٧) أَيْ: اِسْتَشْفَعْتُ بِك , وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.تحفة الأحوذي (٨/ ٤٧٦)
(٨) أَيْ: لِتُقْضَى لِي حَاجَتِي بِشَفَاعَتِك. تحفة الأحوذي (ج ٨ / ص ٤٧٦)
(٩) أَيْ: اِقْبَلْ شَفَاعَتَهُ. تحفة الأحوذي - (ج ٨ / ص ٤٧٦)
(١٠) أَيْ: فِي حَقِّي. تحفة الأحوذي - (ج ٨ / ص ٤٧٦)
(١١) (ت) ٣٥٧٨ , (حم) ١٧٢٧٩ , صححه الألباني في كتاب التوسل ص٦٩
(١٢) (حم) ١٧٢٨٠
(١٣) قال في تحفة الأحوذي (ج ٨ / ص ٤٧٦):
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ فِي إِنْجَاحِ الْحَاجَةِ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِذَاتِهِ الْمُكَرَّمِ فِي حَيَاتِهِ.
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي تُحْفَةِ الذَّاكِرِينَ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى اللهِ - عز وجل - مَعَ اِعْتِقَادِ أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , وَأَنَّهُ الْمُعْطِي الْمَانِعُ , مَا شَاءَ كَانَ , وَمَا لَمْ يَشَأ لَمْ يَكُنْ , ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِالصَّالِحِينَ , فَمِنْهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحَابَةَ اِسْتَسْقَوْا بِالْعَبَّاسِ - رضي الله عنه - عَمِّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه -: اللَّهُمَّ إِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا إِلَخْ.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَقَالَ الشِّيحُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إلى اللهِ تَعَالَى إِلَّا بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِيهِ , وَلَعَلَّهُ يُشِيرُ إِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ اِبْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ أَعْمَى أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ: وَلِلنَّاسِ فِي مَعْنَى هَذَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّوَسُّلَ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا قَالَ: " كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ بِنَبِيِّنَا إِلَيْك فَتَسْقِينَا , وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا ". وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ , فَقَدْ ذَكَرَ عُمَرُ - رضي الله عنه - أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَيَاتِهِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ , ثُمَّ تَوَسَّلَ بِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِ , وَتَوَسُّلُهُمْ هُوَ اِسْتِسْقَاؤُهُمْ , بِحَيْثُ يَدْعُو وَيَدْعُونَ مَعَهُ , فَيَكُونُ هُوَ وَسِيلَتُهُمْ إلى اللهِ تَعَالَى , وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِي مِثْلِ هَذَا شَافِعًا وَدَاعِيًّا لَهُمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ - صلى الله عليه وسلم - يَكُونُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ , وَفِي حَضْرَتِهِ وَمَغِيبِهِ , وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ التَّوَسُّلُ بِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَيَاتِهِ , وَثَبَتَ التَّوَسُّلُ بِغَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا , لِعَدَمِ إِنْكَارِ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى عُمَرَ - رضي الله عنه - فِي تَوَسُّلِهِ بِالْعَبَّاسِ - رضي الله عنه -.
وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا زَعَمَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا عَرَّفْنَاكَ بِهِ مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ التَّوَسُّلَ إلى اللهِ بِأَهْلِ الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ هُوَ فِي التَّحْقِيقِ تَوَسُّلٌ بِأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ , وَمَزَايَاهُمْ الْفَاضِلَةِ , إِذْ لَا يَكُونُ الْفَاضِلُ فَاضِلًا إِلَّا بِأَعْمَالِهِ، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَوَسَّلُ إِلَيْك بِالْعَالِمِ الْفُلَانِيِّ , فَهُوَ بِاعْتِبَارِ مَا قَامَ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَكَى عَنْ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ اِنْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ الصَّخْرَةُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَوَسَّلَ إلى اللهِ بِأَعْظَمِ عَمَلٍ عَمِلَهُ , فَارْتَفَعَتْ الصَّخْرَةُ، فَلَوْ كَانَ التَّوَسُّلُ بِالْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ غَيْرَ جَائِزٍ , أَوْ كَانَ شِرْكًا كَمَا يَزْعُمُهُ الْمُتَشَدِّدُونَ فِي هَذَا الْبَابِ كَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ , لَمْ تَحْصُلْ الْإِجَابَةُ لَهُمْ , وَلَا سَكَتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ إِنْكَارِ مَا فَعَلُوهُ بَعْدَ حِكَايَتِهِ عَنْهُمْ , وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا يُورِدُهُ الْمَانِعُونَ مِنْ التَّوَسُّلِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللهِ زُلْفَى} وَنَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} وَنَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَاَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} لَيْسَ بِوَارِدٍ , بَلْ هُوَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ بِمَا هُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللهِ زُلْفَى} مُصَرِّحٌ بِأَنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ لِذَلِكَ , وَالْمُتَوَسِّلُ بِالْعَالِمِ مَثَلًا لَمْ يَعْبُدْهُ , بَلْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ مَزِيَّةً عِنْدَ اللهِ بِحَمْلِهِ الْعِلْمَ فَتَوَسَّلَ بِهِ لِذَلِكَ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} فَإِنَّهُ نَهْيٌ عَنْ أَنْ يُدْعَى مَعَ اللهِ غَيْرُهُ , كَأَنْ يَقُولَ: بِاللهِ وَبِفُلَانٍ، وَالْمُتَوَسِّلُ بِالْعَالِمِ مَثَلًا لَمْ يَدْعُ إِلَّا اللهَ , فَإِنَّمَا وَقَعَ مِنْهُ التَّوَسُّلُ عَلَيْهِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ عَمِلَهُ بَعْضُ عِبَادِهِ , كَمَا تَوَسَّلَ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ انْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ الصَّخْرَةُ بِصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ , وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد/١٤] فَإِنَّ هَؤُلَاءِ دَعَوْا مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ , وَلَمْ يَدْعُوا رَبَّهُمْ الَّذِي يَسْتَجِيبُ لَهُمْ وَالْمُتَوَسِّلُ بِالْعَالِمِ مَثَلًا لَمْ يَدْعُ إِلَّا اللهَ: وَلَمْ يَدْعُ غَيْرَهُ دُونَهُ: وَلَا دَعَا غَيْرَهُ مَعَهُ , وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ دَفْعُ مَا يُورِدُهُ الْمَانِعُونَ لِلتَّوَسُّلِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ خُرُوجًا زَائِدًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ , كَاسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاك مَا يَوْمُ الدِّينِ , ثُمَّ مَا أَدْرَاك مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا , وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ} فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الشَّرِيفَةَ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى الْمُنْفَرِدُ بِالْأَمْرِ فِي يَوْمِ الدِّينِ , وَأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَالْمُتَوَسِّلُ بِنَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ , أَوْ عَالِمٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ , هُوَ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ لِمَنْ تَوَسَّلَ بِهِ مُشَارَكَةً لِلهِ جَلَّ جَلَالُهُ فِي أَمْرِ يَوْمِ الدِّينِ , وَمَنْ اِعْتَقَدَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ الْعِبَادِ , سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ , فَهُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَهَكَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} , {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مُصَرِّحَتَانِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَمْرِ اللهِ شَيْءٌ , وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا , فَكَيْفَ يَمْلِكُ لِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِيهِمَا مَنْعُ التَّوَسُّلِ بِهِ , أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ , أَوْ الْأَوْلِيَاءِ , أَوْ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ لِمَقَامِ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى , وَأَرْشَدَ الْخَلْقَ إِلَى أَنْ يَسْأَلُوهُ ذَلِكَ وَيَطْلُبُوهُ مِنْهُ وَقَالَ لَهُ: سَلْ تُعْطَهْ , وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ , وَقِيلَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ , بِأَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِإِذْنِهِ , وَلَا تَكُونُ إِلَّا لِمَنْ اِرْتَضَى , وَهَكَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبِينَ} يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ , لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللهِ شَيْئًا، يَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ , لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللهِ شَيْئًا , فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهَا إِلَّا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَسْتَطِيعُ نَفْعَ مَنْ أَرَادَ اللهُ ضُرَّهُ , وَلَا ضُرَّ مَنْ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى نَفْعَهُ , وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِأَحَدٍ مِنْ قَرَابَتِهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ شَيْئًا مِنْ اللهِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ , وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إلى اللهِ , فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ طَلَبُ الْأَمْرِ مِمَّنْ لَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَإِنَّمَا أَرَادَ الطَّالِبُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْ طَلَبِهِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْإِجَابَةِ مِمَّنْ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ , وَهُوَ مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ. اِنْتَهَى كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ.
قُلْت: الْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَيَاتِهِ بِمَعْنَى التَّوَسُّلِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ جَائِزٌ , وَكَذَا التَّوَسُّلُ بِغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فِي حَيَاتِهِمْ , بِمَعْنَى: التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِمْ وَشَفَاعَتِهِمْ أَيْضًا جَائِزٌ، وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ مَمَاتِهِ , وَكَذَا التَّوَسُّلُ بِغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ فَلَا يَجُوزُ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ فِي رِسَالَتِهِ " التَّوَسُّلُ وَالْوَسِيلَةُ " , وَقَدْ أَشْبَعَ الْكَلَامَ فِي تَحْقِيقِهِ , وَأَجَادَ فِيهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ فِيهَا: " وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّهُ جَعَلَ مِنْ الْمَشْرُوعِ الْمُسْتَحَبِّ أَنْ يُتَوَسَّلَ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - دَاعِيًا لَهُ وَلَا شَافِعًا فِيهِ , فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ عُمَرَ وَأَكَابِرَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَرَوْا هَذَا مَشْرُوعًا بَعْدَ مَمَاتِهِ كَمَا كَانَ يُشْرَعُ فِي حَيَاتِهِ , بَلْ كَانُوا فِي الِاسْتِسْقَاءِ فِي حَيَاتِهِ يَتَوَسَّلُونَ بِهِ , فَلَمَّا مَاتَ لَمْ يَتَوَسَّلُوا بِهِ , بَلْ قَالَ عُمَرُ فِي دُعَائِهِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ الثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ الْمَشْهُورِ لَمَّا اِشْتَدَّ بِهِمْ الْجَدْبُ , حَتَّى حَلَفَ عُمَرُ لَا يَأكُلُ سَمْنًا حَتَّى يُخْصِبَ النَّاسُ , فَلَمَّا اِسْتَسْقَى بِالنَّاسِ قَالَ: اللهمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا , وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ، وَهَذَا دُعَاءٌ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ , لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مَعَ شُهْرَتِهِ , وَهُوَ مِنْ أَظْهَرْ الْإِجْمَاعَاتِ الْإِقْرَارِيَّةِ , وَدَعَا بِمِثْلِهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فِي خِلَافَتِهِ لَمَّا اِسْتَسْقَى بِالنَّاسِ.
فَلَوْ كَانَ تَوَسُّلُهُمْ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ مَمَاتِهِ كَتَوَسُّلِهِمْ فِي حَيَاتِهِ , لَقَالُوا: كَيْفَ نَتَوَسَّلُ بِمِثْلِ الْعَبَّاسِ , وَيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ , وَنَحْوِهِمَا , وَنَعْدِلُ عَنْ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْخَلَائِقِ , وَهُوَ أَفْضَلُ الْوَسَائِلِ وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللهِ فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ - وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ فِي حَيَاتِهِ إِنَّمَا تَوَسَّلُوا بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ , وَبَعْدَ مَمَاتِهِ تَوَسَّلُوا بِدُعَاءِ غَيْرِهِ , وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ - عُلِمَ أَنَّ الْمَشْرُوعَ عِنْدَهُمْ التَّوَسُّلُ بِدُعَاءِ الْمُتَوَسَّلِ بِهِ , لَا بِذَاتِهِ، وَحَدِيثُ الْأَعْمَى حُجَّةٌ لِعُمَرَ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ , فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ الْأَعْمَى أَنْ يَتَوَسَّلَ إلى اللهِ بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَدُعَائِهِ , لَا بِذَاتِهِ، وَقَالَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ: " قُلْ: اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ " , وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِذَاتِهِ , لَا بِشَفَاعَتِهِ , وَلَمْ يَأمُرْ بِالدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ , بَلْ بِبَعْضِهِ , وَتَرَكَ سَائِرَهُ الْمُتَضَمِّنَ لِلتَّوَسُّلِ بِشَفَاعَتِهِ , كَانَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ الْمُخَالِفُ لِعُمَرَ مَحْجُوجًا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حُجَّةً عَلَيْهِ , لَا لَهُ.
وَقَالَ فِيهَا: " فَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِذَاتِهِ فِي حُضُورِهِ أَوْ مَغِيبِهِ , أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ , مِثْلُ الْإِقْسَامِ بِذَاتِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ , أَوْ السُّؤَالِ بِنَفْسِ ذَوَاتِهِمْ لَا بِدُعَائِهِمْ فَلَيْسَ هَذَا مَشْرُوعًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ , بَلْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ بِحَضْرَتِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ لَمَّا أَجْدَبُوا اِسْتَسْقَوْا وَتَوَسَّلُوا , أَوْ اِسْتَشْفَعُوا بِمَنْ كَانَ حَيًّا , كَالْعَبَّاسِ , وَيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ , وَلَمْ يَتَوَسَّلُوا, وَلَمْ يَسْتَشْفِعُوا, وَلَمْ يَسْتَسْقُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَا عِنْدَ قَبْرِهِ , وَلَا غَيْرِ قَبْرِهِ , بَلْ عَدَلُوا إِلَى الْبَدَلِ كَالْعَبَّاسِ , وَكَيَزِيدَ , بَلْ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ فِي دُعَائِهِمْ. اِنْتَهَى كلام شيخ الإسلام - رحمه الله -.