للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(ت ابن نصر) , وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (" يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ (١) كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ (٢)) (٣) وفي رواية: (إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ (٤) أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ (٥)) (٦) (لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ) (٧) (رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ " , فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ , أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ , قَالَ: " بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ") (٨)

الشرح (٩)


(١) أَيْ: عَلَى حِفْظِ أَمْرِ دِينِهِ بِتَرْكِ دُنْيَاهُ. تحفة الأحوذي - (ج ٦ / ص ٤٦)
(٢) أَيْ: كَصَبْرِ الْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ فِي الشِّدَّةِ وَنِهَايَةِ الْمِحْنَةِ. تحفة (٦/ ٤٦)
(٣) (ت) ٢٢٦٠ , انظر صَحِيح الْجَامِع: ٨٠٠٢ , الصَّحِيحَة: ٩٥٧
(٤) أَيْ: قُدَّامَكُمْ مِنْ الْأَزْمَانِ الْآتِيَةِ. تحفة الأحوذي - (ج ٧ / ص ٣٧٩)
(٥) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَعْنَى: كَمَا لَا يَقْدِرُ الْقَابِضُ عَلَى الْجَمْرِ أَنْ يَصْبِرَ لِإِحْرَاقِ يَدِهِ، كَذَلِكَ الْمُتَدَيِّنُ يَوْمَئِذٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى ثَبَاتِهِ عَلَى دِينِهِ , لِغَلَبَةِ الْعُصَاةِ وَالْمَعَاصِي , وَانْتِشَارِ الْفِسْقِ , وَضَعْفِ الْإِيمَانِ.
وَقَالَ الْقَارِي: مَعْنَى الْحَدِيثِ: كَمَا لَا يُمْكِنُ الْقَبْضُ عَلَى الْجَمْرَةِ إِلَّا بِصَبْرٍ شَدِيدٍ وَتَحَمُّلِ غَلَبَةِ الْمَشَقَّةِ , كَذَلِكَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ , لَا يُتَصَوَّرُ حِفْظُ دِينِهِ وَنُورِ إِيمَانِهِ إِلَّا بِصَبْرٍ عَظِيمٍ. تحفة الأحوذي - (ج ٦ / ص ٤٦)
(٦) (ت) ٣٠٥٨ , (د) ٤٣٤١
(٧) ابن نصر في " السنة " (ص ٩)
(٨) (ت) ٣٠٥٨ , (د) ٤٣٤١ , صَحِيح الْجَامِع: ٢٢٣٤ , الصَّحِيحَة: ٤٩٤ , صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: ٣١٧٢
(٩) الحديثُ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ هَؤُلَاءِ فِي الْأَجْرِ عَلَى الصَّحَابَةِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ،
وَقَدْ جَاءَ أَمْثَالُ هَذَا أَحَادِيثُ أُخَرُ، وَتَوْجِيهُهُ كَمَا ذَكَرُوا أَنَّ الْفَضْلَ الْجُزْئِيَّ لَا يُنَافِي الْفَضْلَ الْكُلِّيَّ.
وَتَكَلَّمَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: يُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مَنْ هُوَ فِي دَرَجَةِ بَعْضٍ مِنْهُمْ أَوْ أَفْضَلَ , وَمُخْتَارُ الْعُلَمَاءِ خِلَافُهُ.
وقال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَيْسَ هَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ , بَلْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ: أَنَّ الْأَعْمَالَ تَشْرُفُ بِثَمَرَاتِهَا، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْغَرِيبَ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ كَالْغَرِيبِ فِي أَوَّلِهِ , وَبِالْعَكْسِ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: " بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ , فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ "، يُرِيدُ الْمُنْفَرِدِينَ عَنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ , إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: الْإِنْفَاقُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ , لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ - رضي الله عنه -: " لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا , مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ "، أَيْ: مُدَّ الْحِنْطَةِ , لأَنَّ تِلْكَ النَّفَقَةَ أَثْمَرَتْ فِي فَتْحِ الْإِسْلَامِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ مَا لَا يُثْمِرُ غَيْرُهَا، وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ بِالنُّفُوسِ , لَا يَصِلُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ إِلَى فَضْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ , لِقِلَّةِ عَدَدِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَقِلَّةِ أَنْصَارِهِمْ , فَكَانَ جِهَادُهُمْ أَفْضَلَ.
وَلِأَنَّ بَذْلَ النَّفْسِ مَعَ النُّصْرَةِ وَرَجَاءَ الْحَيَاةِ لَيْسَ كَبَذْلِهَا مَعَ عَدَمِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَة حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِر " , فجَعَلَهُ أَفْضَلَ الْجِهَادِ لِيَاسِهِ مِنْ حَيَاته.
وَأَمَّا النَّهْي عَنْ الْمُنْكَر بَيْن ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَام , فَإِنَّ ذَلِكَ شَاقٌّ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ لِعَدَمِ الْمُعِين , وَكَثْرَةِ الْمُنْكَر فِيهِمْ , كَالْمُنْكِرِ عَلَى السُّلْطَانِ الْجَائِر , وَلِذَلِكَ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " يَكُونُ الْقَابِضُ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ " , أَيْ: لَا يَسْتَطِيعُ دَوَامَ ذَلِكَ لِمَزِيدِ الْمَشَقَّةِ , فَكَذَلِكَ الْمُتَأَخِّرُ فِي حِفْظِ دِينِهِ، وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ , لِكَثْرَةِ الْمُعِينِ , وَعَدَمِ الْمُنْكِرِ ". تحفة الأحوذي (ج ٧ / ص ٣٧٩)