للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(خ م) , وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: (كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ - رضي الله عنها - يَتِيمَةٌ، " فَرَأَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْيَتِيمَةَ , فَقَالَ: أَأَنْتِ هِيَهْ؟، لَقَدْ كَبِرْتِ لَا كَبِرَ سِنُّكِ "، فَرَجَعَتِ الْيَتِيمَةُ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِي، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: مَا لَكِ يَا بُنَيَّةُ؟ , فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: دَعَا عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنِّي، فَالْآنَ لَا يَكْبَرُ سِنِّي أَبَدًا، فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا (١) حَتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَا لَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ " , فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ , أَدَعَوْتَ عَلَى يَتِيمَتِي؟ , قَالَ: " وَمَا ذَاكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ " , قَالَتْ: زَعَمَتْ أَنَّكَ دَعَوْتَ أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنُّهَا، " فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، أَمَا تَعْلَمِينَ أَنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ) (٢) (وَإِنِّي قَدْ اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ , فَأَيُّمَا أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَبَبْتُهُ , أَوْ شَتَمْتُهُ , أَوْ لَعَنْتُهُ , أَوْ آذَيْتُهُ , أَوْ جَلَدْتُهُ) (٣) (أَوْ دَعَوْتُ عَلَيْهِ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، أَنْ تَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا , وَزَكَاةً , وَرَحْمَةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ") (٤)

الشرح (٥)


(١) أَيْ: تُدِيرهُ عَلَى رَاسِهَا.
(٢) (م) ٢٦٠٣
(٣) (م) ٢٦٠١ , (حم) ٩٨٠١
(٤) (م) ٢٦٠٣ , ٢٦٠١ , (خ) ٦٠٠٠
(٥) هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُبَيِّنَةٌ مَا كَانَ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الشَّفَقَةِ عَلَى أُمَّتِهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِمَصَالِحِهِمْ وَالِاحْتِيَاطِ لَهُمْ، وَالرَّغْبَةِ فِي كُلِّ مَا يَنْفَعُهُمْ , وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُبَيِّنُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ دُعَاؤُهُ عَلَيْهِ رَحْمَةً وَكَفَّارَةً وَزَكَاةً وَنَحْو ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ , وَالسَّبِّ وَاللَّعْنِ وَنَحْوِه، وَكَانَ مُسْلِمًا، وَإِلَّا فَقَدْ دَعَا - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُمْ رَحْمَة.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْف يَدْعُو عَلَى مَنْ لَيْسَ هُوَ بِأَهْلٍ لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ , أَوْ يَسُبُّهُ , أَوْ يَلْعَنُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ؟ , فَالْجَوَابُ مَا أَجَابَ بِهِ الْعُلَمَاء، وَمُخْتَصَره وَجْهَانِ:
أَحَدهمَا: أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَفِي بَاطِنِ الْأَمْر، وَلَكِنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مُسْتَوْجِبٌ لَهُ، فَيَظْهَرُ لَهُ - صلى الله عليه وسلم - اِسْتِحْقَاقُهُ لِذَلِكَ بِأَمَارَةٍ شَرْعِيَّة، وَيَكُون فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ, وَهُوَ - صلى الله عليه وسلم - مَامُورٌ بِالْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ، وَالله يَتَوَلَّى السَّرَائِر.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ سَبِّهِ وَدُعَائِهِ وَنَحْوِهِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، بَلْ هُوَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي وَصْلِ كَلَامِهَا بِلَا نِيَّة، كَقَوْلِهِ: تَرِبَتْ يَمِينُك، عَقْرَى , حَلْقَى , وَفِي هَذَا الْحَدِيث " لَا كَبِرَتْ سِنُّك " وَفِي حَدِيث مُعَاوِيَة " لَا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَك " وَنَحْو ذَلِكَ , لَا يَقْصِدُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةَ الدُّعَاء، فَخَافَ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُصَادِفَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِجَابَةً، فَسَأَلَ رَبَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى , وَرَغِبَ إِلَيْهِ فِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ رَحْمَةً وَكَفَّارَةً، وَقُرْبَةً وَطَهُورًا وَأَجْرًا.
وَإِنَّمَا كَانَ يَقَعُ هَذَا مِنْهُ فِي النَّادِرِ وَالشَّاذِّ مِنْ الْأَزْمَان، وَلَمْ يَكُنْ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا , وَلَا لَعَّانًا , وَلَا مُنْتَقِمًا لِنَفْسِهِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُمْ قَالُوا: اُدْعُ عَلَى دَوْس، فَقَالَ: " اللهمَّ اِهْدِ دَوْسًا " وَقَالَ: " اللهمَّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ". شرح النووي على مسلم - (ج ٨ / ص ٤١٤)