وقال الألباني في الصحيحة: فتبين مما تقدم أنه لَا يصح شيء من هذه الطرق إِلَّا طريق ابن عجلان , وليس فيه إِلَّا مُناداة عمر " يا سارية الجبل " وسماع الجيش لندائه , وانتصاره بسببه , ومما لَا شك فيه أن النداء المذكور إنما كان إلهاما من الله تعالى لعمر , وليس ذلك بغريب عنه، فإنه " مُحَدَّث " كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن ليس فيه أن عمر كشف له حال الجيش، وأنه رآهم رأي العين , فاستدلال بعض المتصوفة بذلك على ما يزعمونه من الكشف للأولياء , وعلى إمكان اطلاعهم على ما في القلوب من أبطل الباطل، كيف لَا , وذلك من صفات رب العالمين المنفرد بعلم الغيب , والاطلاع على ما في الصدور , وليت شعري , كيف يزعم هؤلاء ذلك الزعم الباطل والله - عز وجل - يقول في كتابه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا , إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن/٢٦، ٢٧] , فهل يعتقدون أن أولئك الأولياء رُسلٌ من رسل الله حتى يصح أن يقال: إنهم يطلعون على الغيب بإطلاع الله إياهم!! سبحانك هذا بهتان عظيم. على أنه لو صح تسمية ما وقع لعمر - رضي الله عنه - كشفا، فهو من الأمور الخارقة للعادة , التي قد تقع من الكافر أيضا، فليس مجرد صدور مثله بالذي يدل على إيمان الذي صدر منه , فضلا على أنه يدل على ولايته , ولذلك يقول العلماء: إن الخارق للعادة إن صدر من مسلم , فهو كرامة , وإلا فهو استدراج، ويضربون على هذا مثل الخوارق التي تقع على يد الدجال الأكبر في آخر الزمان , كقوله للسماء: أمطري فتمطر , وللأرض: أنبتي نباتك فتنبت، وغير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك ما قرأته اليوم من عدد " أغسطس " من السنة السادسة من مجلة " المختار " تحت عنوان: " هذا العالم المملوء بالألغاز وراء الحواس الخمس " ص٢٣ قصة " فتاة شابة ذهبت إلى جنوب أفريقيا للزواج من خطيبها، وبعد معارك مريرة معه , فسخت خطبتها بعد ثلاثة أسابيع، وأخذت الفتاة تذرع غرفتها في اضطراب، وهي تصيح في أعماقها بلا انقطاع: " أواه يا أماه ... ماذا أفعل؟ " , ولكنها قررت أَلَّا تزعج أمها بذكر ما حدث لها؟ , وبعد أربعة أسابيع , تلقت منها رسالة جاء فيها: " ماذا حدث؟ لقد كنت أهبط السلم عندما سمعتك تصيحين قائلة: " أواه يا أماه ... ماذا أفعل؟ ". وكان تاريخ الرسالة متفقا مع تاريخ اليوم الذي كانت تصيح فيه من أعماقها " , وفي المقال المُشار إليه أمثلة أخرى مما يدخل تحت ما يسمونه اليوم بـ " التخاطر " و" الاستشفاف "، ويعرف باسم " البصيرة الثانية " اكتفينا بالذي أوردناه لأنها أقرب الأمثال مشابهَةً لقصة عمر - رضي الله عنه - التي طالما سمعت من ينكرها من المسلمين , لظنه أنها مما لَا يُعقل! أو أنها تتضمن نسبة العلم بالغيب إلى عمر، بينما نجد غير هؤلاء ممن أشرنا إليهم من المتصوفة , يستغلونها لإثبات إمكان اطلاع الأولياء على الغيب، والكل مخطئ , فالقصة صحيحة ثابتة , وهي كرامة أكرم الله بها عمر، حيث أنقذ به جيش المسلمين من الأسر أو الفتك به ولكن ليس فيها ما زعمه المتصوفة من الاطلاع على الغيب، وإنما هو من باب الإلهام (في عرف الشرع) أو (التخاطر) في عُرف العصر الحاضر , الذي ليس معصوما، فقد يصيب كما في هذه الحادثة , وقد يخطئ كما هو الغالب على البشر، ولذلك , كان لابد لكل وليٍّ من التقيد بالشرع في كل ما يصدر منه من قول أو فعل , خشية الوقوع في المخالفة، فيخرج بذلك عن الولاية التي وصفها الله تعالى بوصف جامع شامل فقال: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ , الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس/٦٢، ٦٣] , ولقد أحسن من قال: إذا رأيت شخصا قد يطير , وفوق ماء البحر قد يسير , ولم يقف على حدود الشرع , فإنه مستدرَجٌ وبِدْعيّ. أ. هـ