للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(خ م) , وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رضي الله عنه - قَالَ: " حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثَيْنِ , رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا , وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ , حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ (١) نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاءِ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ (٢) ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ, فَعَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ, وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ (٣) ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا (٤) فَقَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ , فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ , فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ (٥) ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ , فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ , فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ (٦) كَجَمْرٍ (٧) دَحْرَجْتَهُ (٨) عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ (٩) فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا (١٠) وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ (١١) فَيُصْبِحُ النَّاسُ (١٢) يَتَبَايَعُونَ (١٣) فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ (١٤) حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا , حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ (١٥): مَا أَعْقَلَهُ , وَمَا أَظْرَفَهُ , وَمَا أَجْلَدَهُ (١٦) وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ (١٧) " , وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ (١٨) وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ (١٩) لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا, لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ دِينُهُ (٢٠) وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا , لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ (٢١) فَأَمَّا الْيَوْمَ (٢٢) فَمَا كُنْتُ لِأُبَايِعَ مِنْكُمْ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا (٢٣)) (٢٤).

الشرح (٢٥)


(١) (الْأَمَانَةَ) هي الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} وَهِيَ عَيْنُ الْإِيمَانِ، أَوْ كُلُّ مَا يَخْفَى وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ مِنْ الْمُكَلَّفِ , أَوْ الْمُرَادُ بِهَا التَّكْلِيفُ الَّذِي كَلَّفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ , أَوْ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ. تحفة (٥/ ٤٧١)
(٢) أَيْ: نَزَلَتْ فِي أَصْلِ قُلُوبِهِمْ، وَجَذْرُ كُلِّ شَيْءٍ أَصْلُهُ , أَيْ: أَنَّ الْأَمَانَةَ أَوَّلَ مَا نَزَلَتْ فِي قُلُوبِ الرِّجَالِ وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهَا , فَكَانَتْ هِيَ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْأَخْذِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَهَذَا هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: " ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ ". تحفة (٥/ ٤٧١)
(٣) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمُوا السُّنَن، وَالْمُرَادُ بِالسُّنَنِ: مَا يَتَلَقَّوْنَهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا. فتح (ج ٢٠ / ص ٩٣)
(٤) وَهُوَ الْحَدِيثُ الثَّانِي. تحفة الأحوذي - (ج ٥ / ص ٤٧١)
(٥) (الْوَكْت): الْأَثَرُ فِي الشَّيْءِ , كَالنُّقْطَةِ مِنْ غَيْرِ لَوْنِهِ , يُقَالُ: وَكَتَ الْبُسْرُ , إِذَا بَدَتْ فِيهِ نُقْطَةُ الْإِرْطَابِ. تحفة الأحوذي (٥/ ٤٧١)
(٦) الْمَجْل: هُوَ أَثَرُ الْعَمَلِ فِي الْكَفِّ, قَالَ فِي الْفَائِقِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَكْتِ وَالْمَجْلِ أَنَّ الْوَكْتَ: النُّقْطَةُ فِي الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ لَوْنِهِ , والمَجْل: غِلَظُ الْجِلْدِ مِنْ الْعَمَلِ لَا غَيْرُ. تحفة الأحوذي - (ج ٥ / ص ٤٧١)
(٧) أَيْ: تَأثِيرٌ كَتَأثِيرِ جَمْرٍ , يَعْنِي أنَّ أَثَرَ الْمَجْلِ كَأَثَر جَمْرٍ. تحفة (٥/ ٤٧١)
قلت: وهذا ملاحظ في من يعمل بيده ممسكا بعصًا أو نحوها , فإن يده يحدُث في باطنها انتفاخ في الجلد يشبه الانتفاخ الحاصل من الاحتراق بالجمر وغيره. ع
(٨) أَيْ: قَلَّبْتَه وَدَوَّرْتَه. تحفة الأحوذي - (ج ٥ / ص ٤٧١)
(٩) أَيْ: وَرِم وانتفخ , وامتلأ ماءً وارتفع.
(١٠) أي: مُنْتَفِخًا.
(١١) أَيْ: يُخَيَّلُ إِلَيْكَ أَنَّ الرَّجُلَ ذُو أَمَانَةٍ , وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَثَابَةِ نَفِطَةً تَرَاهَا مُنْتَفِطَةً مُرْتَفِعَةً كَبِيرَةً , لَا طَائِلَ تَحْتَهَا. تحفة الأحوذي - (ج ٥ / ص ٤٧١)
(١٢) أَيْ: يَدْخُلُونَ فِي الصَّبَاحِ.
(١٣) أَيْ: يَتَبَايَعُونَ السِّلَعَ وَنَحْوَهَا , بِأَنْ يَشْتَرِيَهَا أَحَدُهُمْ مِنْ الْآخَرِ. تحفة (٥/ ٤٧١)
(١٤) لِأَنَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْأَمَانَةِ سُلِبَهَا , حَتَّى صَارَ خَائِنًا. تحفة (٥/ ٤٧١)
(١٥) أَيْ: مِنْ أَرْبَابِ الدُّنْيَا، مِمَّنْ لَهُ عَقْلٌ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ , وَطَبْعٌ فِي الشِّعْرِ وَالنَّثْرِ، وَفَصَاحَةٌ وَبَلَاغَةٌ , وَصَبَاحَةٌ , وَقُوَّةٌ بَدَنِيَّةٌ , وَشَجَاعَةٌ وَشَوْكَةٌ. تحفة الأحوذي - (ج ٥ / ص ٤٧١)
(١٦) أي: أَنَّهُمْ يَمْدَحُونَهُ بِكَثْرَةِ الْعَقْلِ وَالظَّرَافَةِ وَالْجَلَادَةِ , وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ، وَلَا يَمْدَحُونَ أَحَدًا بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ النَّافِعِ , وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. تحفة الأحوذي (٥/ ٤٧١)
(١٧) قَالَ الطِّيبِيُّ. لَعَلَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى تَفْسِيرِ الْأَمَانَةِ فِي قَوْلِهِ " إِنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ بِالْإِيمَانِ " لِقَوْلِهِ آخِرًا: وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَهَلَّا حَمَلُوهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا؟ , لِقَوْلِهِ: " وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ " فَيَكُونُ وَضْعُ الْإِيمَانِ آخِرًا مَوْضِعَهَا تَفْخِيمًا لِشَأنِهَا، وَحَثًّا عَلَى أَدَائِهَا , قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ ".
قَالَ الْقَارِي: إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ آخِرًا , وَمَا صَدَّرَ أَوَّلًا مِنْ قَوْلِهِ: " نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ " , فَإِنَّ نُزُولَ الْأَمَانَةِ بِمَعْنَى الْإِيمَانِ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِأَصْلِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ , ثُمَّ يَعْلَمُونَ إِيقَانَهُ , وَإِيقَانُهُمْ بِتَتَبُّعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَهِيَ جُزْئِيَّةٌ مِنْ كُلِّيَّةٍ , مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ. تحفة الأحوذي (٥/ ٤٧١)
(١٨) أي: كُنْتُ أَعْلَمُ فِيهِ أَنَّ الْأَمَانَةَ مَوْجُودَةٌ فِي النَّاسِ. تحفة الأحوذي (٥/ ٤٧١)
(١٩) أَيْ: بِعْتُ أَوْ اِشْتَرَيْتُ غَيْرَ مُبَالٍ بِحَالِهِ. تحفة الأحوذي - (ج ٥ / ص ٤٧١)
(٢٠) أَيْ: فَلَا يَخُونُنِي , بَلْ يَحْمِلُهُ إِسْلَامُهُ عَلَى أَدَاءِ الْأَمَانَةِ , فَأَنَا وَاثِقٌ بِأَمَانَتِهِ. تحفة الأحوذي - (ج ٥ / ص ٤٧١)
(٢١) أَيْ الْوَالِي الَّذِي عَلَيْهِ , وَكُلُّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ قَوْمٍ فَهُوَ سَاعٍ عَلَيْهِمْ، يَعْنِي: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مُهْتَمِّينَ بِالْإِسْلَامِ , فَيَحْفَظُونَ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَالْمُلُوكُ ذَوُو عَدْلٍ، فَمَا كُنْت أُبَالِي مَنْ أُعَامِلُ , إِنْ كَانَ مُسْلِمًا , رَدَّهُ عَنْ الْخُرُوجِ إِلَى الْحَقِّ عَمَلُهُ بِمُقْتَضَى الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْلِمٍ , أَنْصَفَنِي مِنْهُ الْوَالِي الَّذِي عَلَيْهِ. تحفة الأحوذي (ج ٥ / ص ٤٧١)
(٢٢) أَيْ: فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ ذَهَبَتْ الْأَمَانَةُ , وَظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ , فَلَسْتُ أَثِقُ بِأَحَدٍ فِي بَيْعٍ وَلَا شِرَاءٍ. تحفة الأحوذي (ج ٥ / ص ٤٧١)
(٢٣) أَيْ: أَفْرَادًا مِنْ النَّاسِ قَلَائِلَ مِمَّنْ أَثِقُ بِهِمْ.
والَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ " مَا كُنْت أُبَايِعُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا " هُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَخِيرِ الَّذِي أَدْرَكَهُ , وَالْأَمَانَةُ فِيهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَصْرِ الْأَوَّلِ أَقَلُّ، وَأَمَّا الَّذِي يَنْتَظِرُهُ , فَإِنَّهُ حَيْثُ تُفْقَدُ الْأَمَانَةُ مِنْ الْجَمِيعِ إِلَّا النَّادِرَ.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَالَ الْأَمَانَةِ آخِذٌ فِي النَّقْصِ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ , وَكَانَتْ وَفَاةُ حُذَيْفَةَ أَوَّلَ سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ , بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ بِقَلِيلٍ، فَأَدْرَكَ بَعْضَ الزَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّغَيُّرُ. تحفة الأحوذي (٥/ ٤٧١)
(٢٤) (م) ١٤٣ , (خ) ٦١٣٢
(٢٥) قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ حُذَيْفَةُ هَذَا الْقَوْلُ لَمَّا تَغَيَّرَتْ الْأَحْوَالُ الَّتِي كَانَ يَعْرِفُهَا عَلَى عَهْدِ النُّبُوَّةِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ، فَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِالْمُبَايَعَةِ, وَكَنَّى عَنْ الْإِيمَانِ بِالْأَمَانَةِ وَعَمَّا يُخَالِفُ أَحْكَامَهُ بِالْخِيَانَةِ. تحفة الأحوذي (ج٥ص٤٧١)