للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(خ ت طب حم) , وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: (سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ , فَقَالَ: " قَرْنِي (١) ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ (٢) ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ (٣)) (٤) (ثُمَّ يَأتِي بَعْدَ ذَلِكَ قَوْمٌ) (٥) (لَا خَيْرَ فِيهِمْ) (٦) (يَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ (٧) وَيَنْذِرُونَ وَلَا يَفُونَ, وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ (٨)) (٩) (وَيَفْشُو فِيهِمُ الْكَذِبُ , حَتَّى) (١٠) (يَحْلِفَ أَحَدُهُمْ عَلَى الْيَمِينِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ عَلَيْهَا , وَيَشْهَدَ عَلَى الشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ (١١)) (١٢) (وَلَهُمْ لَغَطٌ (١٣) فِي أَسْوَاقِهِمْ ") (١٤) (قَالَ إِبْرَاهِيمُ (١٥): وَكَانَ أَصْحَابُنَا (١٦) يَنْهَوْنَا وَنَحْنُ غِلْمَانٌ أَنْ نَحْلِفَ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ (١٧)) (١٨).


(١) أَيْ: أَهْلُ قَرْنِي، وَالْقَرْن: أَهْلُ زَمَانٍ وَاحِدٍ مُتَقَارِبٍ اِشْتَرَكُوا فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ الْمَقْصُودَة.
وَيُقَال: إِنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا اِجْتَمَعُوا فِي زَمَنِ نَبِيٍّ أَوْ رَئِيسٍ يَجْمَعُهُمْ عَلَى مِلَّةٍ , أَوْ مَذْهَبٍ , أَوْ عَمَل.
وَيُطْلَقُ الْقَرْنُ عَلَى مُدَّةٍ مِنْ الزَّمَان، وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدهَا مِنْ عَشَرَةِ أَعْوَام إِلَى مِائَة وَعِشْرِينَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ عِنْد مُسْلِمٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَرْنَ مِائَة، وَهُوَ الْمَشْهُور. وَالْمُرَادُ بِقَرْنِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْحَدِيث: الصَّحَابَة. وَاتَّفَقَ العلماءُ أَنَّ آخِرَ مَنْ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ مِمَّنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ , مَنْ عَاشَ إِلَى حُدُودِ الْعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ ظَهَرَتْ الْبِدَعُ ظُهُورًا فَاشِيًّا، وَأَطْلَقَتْ الْمُعْتَزِلَة أَلْسِنَتهَا، وَرَفَعَتْ الْفَلَاسِفَةُ رُءُوسهَا، وَامْتُحِنَ أَهْلُ الْعِلْمِ لِيَقُولُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَتَغَيَّرَتْ الْأَحْوَالُ تَغَيُّرًا شَدِيدًا، وَلَمْ يَزَلْ الْأَمْرُ فِي نَقْصٍ إِلَى الْآن , وَظَهَرَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - " ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِب " ظُهُورًا بَيِّنًا , حَتَّى يَشْمَلَ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ وَالْمُعْتَقَدَاتِ , وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ. فتح الباري (ج ١٠ / ص ٤٤٥)
(٢) أَيْ: الْقَرْنُ الَّذِي بَعْدَهُمْ , وَهُمْ التَّابِعُونَ. (فتح) - (ج ١٠ / ص ٤٤٥)
(٣) وَهُمْ أَتْبَاعُ التَّابِعِينَ، وَاقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثُ أَنْ تَكُونَ الصَّحَابَةُ أَفْضَلُ مِنْ التَّابِعِينَ , وَالتَّابِعُونَ أَفْضَلُ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، لَكِنْ , هَلْ هَذِهِ الْأَفْضَلِيَّة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَجْمُوعِ أَوْ الْأَفْرَاد؟ , مَحَلُّ بَحْث، وَإِلَى الثَّانِي نَحَا الْجُمْهُور، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ اِبْن عَبْد الْبَرّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَنْ قَاتَلَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ فِي زَمَانِهِ بِأَمْرِهِ , أَوْ أَنْفَقَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ بِسَبَبِهِ , لَا يَعْدِلهُ فِي الْفَضْلِ أَحَدٌ بَعْدَه , كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ ذَلِكَ , فَهُوَ مَحَلُّ الْبَحْث، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ , أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} الْآية , وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِحَدِيثِ: " مَثَل أُمَّتِي مَثَل الْمَطَر , لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُه ", وَرَوَى أَحْمَد وَالدَّارِمِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيث أَبِي جُمْعَة قَالَ: " قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يَا رَسُولَ اللهِ، أَأَحَدٌ خَيْر مِنَّا؟ , أَسْلَمْنَا مَعَك، وَجَاهَدْنَا مَعَك. قَالَ: قَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ , يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي ". فتح الباري (١٠/ ٤٤٥)
(٤) (خ) ٢٥٠٩
(٥) (حم) ٣٥٩٤ , وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(٦) (طب) ١٠٠٥٨ , صَحِيح الْجَامِع: ٣٢٩٣ , والضعيفة تحت حديث: ٣٥٦٩
(٧) أَيْ: لَا يَثِقُ النَّاسُ بِهِمْ، وَلَا يَعْتَقِدُونَهُمْ أُمَنَاءَ، بِأَنْ تَكُونَ خِيَانَتُهُمْ ظَاهِرَةً , بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلنَّاسِ اِعْتِمَادٌ عَلَيْهِمْ. (فتح) - (ج ٨ / ص ١٦٠)
(٨) أَيْ: يُحِبُّونَ التَّوَسُّعَ فِي اَلْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَهِيَ أَسْبَابُ السِّمَنِ. فتح (١٠/ ٤٤٥)
(٩) (خ) ٢٥٠٨
(١٠) (ت) ٢١٦٥
(١١) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّحَمُّلَ بِدُونِ التَّحْمِيلِ , أَوْ الْأَدَاءَ بِدُونِ طَلَبٍ، وَالثَّانِي أَقْرَب , وَيُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ زَيْدٍ بْنِ خَالِدٍ مَرْفُوعًا " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ , الَّذِي يَأتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا ".
وَاخْتَلَفَ اَلْعُلَمَاءُ فِي تَرْجِيحِهِمَا , فَجَنَحَ اِبْنُ عَبْدِ اَلْبَرّ إِلَى تَرْجِيحِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِد لِكَوْنِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ , فَقَدَّمَهُ عَلَى رِوَايَةِ أَهْلِ اَلْعِرَاقِ , وَبَالَغَ فَزَعَمَ أَنَّ حَدِيثَ عِمْرَانَ هَذَا لَا أَصْلَ لَهُ.
وَجَنَحَ غَيْرُهُ إِلَى تَرْجِيحِ حَدِيثِ عِمْرَانَ , لِاتِّفَاقِ صَاحِبَيْ الصَّحِيحِ عَلَيْهِ , وَانْفِرَادِ مُسْلِمٍ بِإِخْرَاجِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِد.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا , فَأَجَابُوا بِأَجْوِبَة: أَحَدُهَا: أَنَّ اَلْمُرَادَ بِحَدِيثِ زَيْد: مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِإِنْسَانٍ بِحَقٍّ , لَا يَعْلَمُ بِهَا صَاحِبُهَا, فَيَأتِي إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِهَا , أَوْ يَمُوتُ صَاحِبُهَا اَلْعَالِمُ بِهَا , وَيُخَلِّفُ وَرَثَةً , فَيَأتِي اَلشَّاهِدُ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى مَنْ يَتَحَدَّثُ عَنْهُمْ , فَيُعْلِمُهُمْ بِذَلِكَ , وَهَذَا أَحْسَنُ اَلْأَجْوِبَةِ , وَبِهَذَا أَجَابَ يَحْيَى بْن سَعِيد , شَيْخُ مَالِكٍ , وَمَالِكٌ , وَغَيْرُهُمَا.
ثَانِيهَا: أَنَّ اَلْمُرَادَ بِهِ شَهَادَةُ اَلْحِسْبَة , وَهِيَ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اَلْآدَمِيِّينَ اَلْمُخْتَصَّةِ بِهِمْ مَحْضًا، وَيَدْخُلُ فِي اَلْحِسْبَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللهِ أَوْ فِيهِ شَائِبَة , مِنْهُ الْعَتَاقُ وَالْوَقْفُ , وَالْوَصِيَّة اَلْعَامَّة , وَالْعِدَّة , وَالطَّلَاق , وَالْحُدُود , وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ اَلْمُرَادَ بِحَدِيثِ اِبْن مَسْعُود: الشَّهَادَةُ فِي حُقُوقِ اَلْآدَمِيِّينَ
وَالْمُرَادُ بِحَدِيثِ زَيْدِ بْن خَالِد: اَلشَّهَادَةُ فِي حُقُوقِ اللهِ.
ثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِجَابَةِ إِلَى الْأَدَاءِ , فَيَكُونُ لِشِدَّةِ اِسْتِعْدَادِهِ لَهَا كَاَلَّذِي أَدَّاهَا قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا, كَمَا يُقَالُ فِي وَصْفِ الْجَوَادِ: إِنَّهُ لَيُعْطِي قَبْلَ الطَّلَبِ
أَيْ: يُعْطِي سَرِيعًا عَقِبَ اَلسُّؤَالِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ. وَهَذِهِ اَلْأَجْوِبَةُ مَبْنِيَّة عَلَى أَنَّ اَلْأَصْلَ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ اَلْحَاكِمِ أَنْ لَا يَكُونَ إِلَّا بَعْدَ الطَّلَبِ مَنْ صَاحِبِ اَلْحَقِّ فَيَخُصُّ ذَمَّ مَنْ يَشْهَدُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ بِمَنْ ذَكَرَ مِمَّنْ يُخْبِرُ بِشَهَادَةٍ عِنْدَهُ , لَا يَعْلَمُ صَاحِبهَا بِهَا , أَوْ شَهَادَةِ اَلْحِسْبَة.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَوَازِ أَدَاءِ اَلشَّهَادَةِ قَبْلَ اَلسُّؤَالِ عَلَى ظَاهِرِ عُمُومِ حَدِيثِ زَيْد بْن خَالِد، وَتَأَوَّلُوا حَدِيثَ عِمْرَانَ بِتَأوِيلَات: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ أَيْ: يُؤَدُّونَ شَهَادَةً لَمْ يُسْبَقْ لَهُمْ تَحَمُّلُهَا, وَهَذَا حَكَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اَلْعِلْمِ ثَانِيهَا: الْمُرَادُ بِهَا الشَّهَادَةُ فِي الْحَلِفِ , يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْل إِبْرَاهِيمَ فِي آخِر حَدِيثِ اِبْن مَسْعُود: " كَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ " , أَيْ: قَوْلِ اَلرَّجُلِ: أَشْهَدُ بِاللهِ مَا كَانَ إِلَّا كَذَا , عَلَى مَعْنَى الْحَلِفِ , فَكُرِهَ ذَلِكَ كَمَا كُرِهَ الْإِكْثَارُ مِنْ اَلْحَلِفِ , وَالْيَمِينُ قَدْ تُسَمَّى شَهَادَةً , كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَشَهَادَة أَحَدِهِمْ} وَهَذَا جَوَاب اَلطَّحَاوِيّ. ثَالِثُهَا: اَلْمُرَادُ بِهَا اَلشَّهَادَةُ عَلَى اَلْمُغَيَّبِ مِنْ أَمْرِ اَلنَّاسِ , فَيَشْهَدُ عَلَى قَوْمٍ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ , وَعَلَى قَوْمٍ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , كَمَا صَنَعَ ذَلِكَ أَهْلُ اَلْأَهْوَاءِ , حَكَاهُ الْخَطَّابِيّ.
رَابِعُهَا: اَلْمُرَاد بِهِ مَنْ يَنْتَصِبُ شَاهِدًا , وَلَيْسَ مَنْ أَهْلِ اَلشَّهَادَة.
خَامِسُهَا: اَلْمُرَاد بِهِ اَلتَّسَارُعُ إِلَى اَلشَّهَادَةِ , وَصَاحِبُهَا عَالِمٌ بِهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْأَلَهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ. فتح الباري (ج ٨ / ص ١٦٠)
(١٢) (حم) ١٧٧ , (ت) ٢١٦٥
(١٣) اللغط: الأصوات المختلطة المبهمة , والضجة لَا يفهم معناها.
(١٤) (طل) ٣٢ , انظر الصحيحة: ٣٤٣١
(١٥) هُوَ النَّخَعِيُّ.
(١٦) يَعْنِي: مَشَايِخُهُ وَمَنْ يَصْلُحُ مِنْهُ اِتِّبَاعُ قَوْلِه.
(١٧) أَيْ: أَنْ يَقُولُ أَحَدُنَا: أَشْهَدُ بِاللهِ , أَوْ عَلَى عَهْدِ الله. فتح (ج ٨ / ص ١٦٠)
(١٨) (خ) ٢٥٠٩ , (م) ٢٥٣٣