للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(س د حم) , وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ .. إِلَى قَوْلِهِ الْفَاسِقُونَ} (قَالَ: هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً , فِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ) (١) (وَكَانَتْ إِحْدَاهُمَا قَدْ قَهَرَتْ الْأُخْرَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ) (٢) (فَكَانَ النَّضِيرُ أَشْرَفَ مِنْ قُرَيْظَةَ) (٣) (فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهُ) (٤) (إِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْظَةَ رَجُلًا مِنْ النَّضِيرِ , قُتِلَ بِهِ , وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ النَّضِيرِ رَجُلًا مِنْ قُرَيْظَةَ , أَدَّى مِائَةَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ) (٥) (فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى " قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ " , فَذَلَّتْ الطَّائِفَتَانِ كِلْتَاهُمَا لِمَقْدَمِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمَا وَهُوَ فِي الصُّلْحِ -) (٦) (فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْ النَّضِيرِ رَجُلًا مِنْ قُرَيْظَةَ , فَقَالُوا: ادْفَعُوهُ إِلَيْنَا نَقْتُلْهُ) (٧) (فَكَادَتْ الْحَرْبُ تَهِيجُ بَيْنَهُمَا , ثُمَّ ارْتَضَوْا عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُمْ) (٨) (فَقَالُوا: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مُحَمَّدٌ) (٩) (ثُمَّ ذَكَرَتْ النَّضِيرُ فَقَالَتْ: وَاللهِ مَا مُحَمَّدٌ بِمُعْطِيكُمْ مِنْهُمْ ضِعْفَ مَا يُعْطِيهِمْ مِنْكُمْ , وَلَقَدْ صَدَقُوا , مَا أَعْطَوْنَا هَذَا إِلَّا ضَيْمًا مِنَّا , وَقَهْرًا لَهُمْ , فَدُسُّوا إِلَى مُحَمَّدٍ مَنْ يَخْبُرُ لَكُمْ رَأيَهُ , فَإِنْ أَعْطَاكُمْ مَا تُرِيدُونَ , حَكَّمْتُمُوهُ , وَإِنْ لَمْ يُعْطِكُمْ , حَذِرْتُمْ فَلَمْ تُحَكِّمُوهُ (١٠) فَدَسُّوا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَاسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ لِيَخْبُرُوا لَهُمْ رَأيَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا جَاءَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَ اللهُ رَسُولَهُ بِأَمْرِهِمْ كُلِّهِ وَمَا أَرَادُوا فَأَنْزَلَ اللهُ - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا .. إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ , وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا , وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}) (١١) (وَالْقِسْطُ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ) (١٢) (" فَسَوَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُمْ) (١٣) (فَجَعَلَ الدِّيَةَ سَوَاءً ") (١٤) (ثُمَّ قَالَ اللهُ - عز وجل -: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ .. إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِ اللهُ تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ , لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا , وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ , إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ , وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ , وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ , فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ , وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ , أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (١٥)) (١٦) (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِيهِمَا وَاللهِ نَزَلَتْ , وَإِيَّاهُمَا عَنَى اللهُ - عز وجل -) (١٧).

الشرح (١٨)


(١) (د) ٣٥٧٦
(٢) (حم) ٢٢١٢ , وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن.
(٣) (س) ٤٧٣٢ , (د) ٤٤٩٤
(٤) (حم) ٢٢١٢
(٥) (س) ٤٧٣٢ , (د) ٤٤٩٤
(٦) (حم) ٢٢١٢
(٧) (س) ٤٧٣٢ , (د) ٤٤٩٤
(٨) (حم) ٢٢١٢
(٩) (س) ٤٧٣٢ , (د) ٤٤٩٤
(١٠) أَيْ أنهم عرفوا سلفا رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسألة , وأنه لن يرضى بظلم النضير لقريظة في دية المقتول، وبهذا لَا يكون تحكيم النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم من صالح النضير لكنهم لم يكونوا متأكدين من ذلك، وإِلَّا لَمَا ذهبوا إليه، فأرادوا أن يتأكدوا , هل سيحكم - صلى الله عليه وسلم - بينهم بالتساوي دون تفريق - وهو ما لَا يريدون - أم سيحكم بأن النضير أشرف من قريظة؟ , وبناء عليه , فإنهما لَا يتساويان في الحكم , فَدَسُّوا له منافقين ليعرفوا رأيه في هذه المسألة قبل أن يُحَكِّمُوه فيها. ع
(١١) (حم) ٢٢١٢
(١٢) (س) ٤٧٣٢ , (د) ٤٤٩٤
(١٣) (حم) ٣٤٣٤ , (د) ٣٥٩١
(١٤) (س) ٤٧٣٣
(١٥) [المائدة/٤٨ - ٥٠]
(١٦) (د) ٣٥٩٠ , ٤٤٩٤ , (س) ٤٧٣٢
(١٧) (حم) ٢٢١٢، انظر الصَّحِيحَة ٢٥٥٢
(١٨) قال الألباني في السلسلة الصحيحة (٦/ ٥١): (فائدة هامة): إذا علمتَ أن الآيات الثلاث: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، {فأولئك هم الظالمون) *، {فأولئك هم الفاسقون} نزلت في اليهود وقولهم في حكمه - صلى الله عليه وسلم -: " إن أعطاكم ما تريدون حكَّمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكِّموه "، وقد أشار القرآن إلى قولهم هذا قبل هذه الآيات فقال: {يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا}، إذا عرفت هذا، فلا يجوز حمل هذه الآيات على بعض الحكَّام المسلمين وقضاتهم الذين يحكمون بغير ما أنزل الله من القوانين الأرضية، أقول: لا يجوز تكفيرهم بذلك، وإخراجهم من الملة إذا كانوا مؤمنين بالله ورسوله - وإن كانوا مجرمين بحكمهم بغير ما أنزل الله - لا يجوز ذلك، لأنهم وإن كانوا كاليهود من جهة حكمهم المذكور، فهم مخالفون لهم من جهة أخرى، ألا وهي إيمانهم وتصديقهم بما أنزل الله، بخلاف اليهود الكفار، فإنهم كانوا جاحدين له , كما يدل عليه قولهم المتقدم: " ... وإن لم يعطكم حذرتموه فلم تحكِّموه "، بالإضافة إلى أنهم ليسوا مسلمين أصلا، وسر هذا أن الكفر قسمان: اعتقادي وعملي , فالاعتقادي مقرُّه القلب. والعملي محلُّه الجوارح , فمن كان عمله كفرا لمخالفته للشرع، وكان مطابقا لما وقر في قلبه من الكفر به، فهو الكفر الاعتقادي،
وهو الكفر الذي لا يغفره الله، ويخلد صاحبه في النار أبدا , وأما إذا كان مخالفا لما وقر في قلبه، فهو مؤمن بحكم ربه، ولكنه يخالفه بعمله، فكفره كفرٌ عملي فقط، وليس كفرا اعتقاديا، فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وعلى هذا النوع من الكفر تُحْمل الأحاديث التي فيها إطلاق الكفر على من فعل شيئا من المعاصي من المسلمين، ولا بأس من ذكر بعضها:
١ - اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في الأنساب والنياحة على الميت. رواه مسلم.
٢ - الجدال في القرآن كفر.
٣ - سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر. رواه مسلم.
٤ - كفر بالله تبرُّؤٌ من نسب وإن دق. " الروض النضير " (رقم ٥٨٧).
٥ - التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر. الصحيحة: ٦٦٧
٦ - لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض. متفق عليه.
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي لا مجال الآن لاستقصائها.
فمن قام من المسلمين بشيء من هذه المعاصي، فكفرُه كفرٌ عملي، أي أنه يعمل عمل الكفار.
إلا أن يستحلها، ولا يرى كونها معصية , فهو حينئذ كافر حلال الدم، لأنه شارك الكفار في عقيدتهم أيضا.
والحكم بغير ما أنزل الله لا يخرج عن هذه القاعدة أبدا، وقد جاء عن السلف ما يدعمها، وهو قولهم في تفسير الآية: " كفرٌ دون كفرٍ "، صح ذلك عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - ثم تلقاه عنه بعض التابعين وغيرهم , ولابد من ذِكر ما تيسَّر لي عنهم , لعل في ذلك إنارة للسبيل , أمام من ضل اليوم في هذه المسألة الخطيرة، ونحا نحو الخوارج الذين يكفِّرون المسلمين بارتكابهم المعاصي، وإن كانوا يصلون ويصومون!
١ - روى ابن جرير الطبري (١٠/ ٣٥٥ / ١٢٠٥٣) بإسناد صحيح عن ابن عباس: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قال: هي به كفر، وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله.
٢ - وفي رواية عنه في هذه الآية: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة، كفرٌ دون كفر. أخرجه الحاكم (٢/ ٣١٣) وقال: " صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي، وحقهما أن يقولا: على شرط الشيخين. فإن إسناده كذلك.
ثم رأيت الحافظ ابن كثير نقل في " تفسيره " (٦/ ١٦٣) عن الحاكم أنه قال:
" صحيح على شرط الشيخين "، فالظاهر أن في نسخة " المستدرك " المطبوعة سقطا، وعزاه ابن كثير لابن أبي حاتم أيضا ببعض اختصار.
٣ - وفي أخرى عنه من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم , فهو ظالم فاسق. أخرجه ابن جرير (١٢٠٦٣). قلت: وابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، لكنه جيد في الشواهد.
٤ - ثم روى (١٢٠٤٧ - ١٢٠٥١) عن عطاء بن أبي رباح قوله: (وذكر الآيات الثلاث): كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم. وإسناده صحيح
٥ - ثم روى (١٢٠٥٢) عن سعيد المكي , عن طاووس (وذكر الآية) قال: ليس بكفر ينقل عن الملة. وإسناده صحيح، وسعيد هذا هو ابن زياد الشيباني المكي، وثقه ابن معين , والعجلي , وابن حبان , وغيرهم، وروى عنه جمع.
٦ - وروى (١٢٠٢٥ و ١٢٠٢٦) من طريقين عن عمران بن حدير قال: أتى أبا مِجْلَزٍ ناس من بني عمرو بن سدوس (وفي الطريق الأخرى: نفر من الإباضية) فقالوا: أرأيت قول الله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} أحق هو؟ , قال: نعم , قالوا: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} , أحق هو؟ , قال: نعم , قالوا: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} , أحق هو؟ , قال: نعم , قال: فقالوا: يا أبا مجلز فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟ , قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون , وإليه يدعون -[يعني الأمراء]- فإن هم تركوا شيئا منه , عرفوا أنهم أصابوا ذنبا , فقالوا: لا والله، ولكنك تفرق (تخاف) , قال: أنتم أولى بهذا مني! , لا أرى، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تحرَّجون، ولكنها أُنزلت في اليهود , والنصارى , وأهل الشرك , أو نحوا من هذا. وإسناده صحيح.
وقد اختلف العلماء في تفسير الكفر في الآية الأولى على خمسة أقوال , ساقها ابن جرير (١٠/ ٣٤٦ - ٣٥٧) بأسانيده إلى قائليها، ثم ختم ذلك بقوله (١٠/ ٣٥٨): " وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب , قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات فيهم نزلت، وهم المعنيُّون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونُها خبرا عنهم أولى.
فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد عمَّ بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلتَه خاصا؟
قيل: إن الله تعالى عمَّ بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم - على سبيل ما تركوه - كافرون.
وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به , هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنه بجحوده حكم الله , بعد علمه أنه أنزله في كتابه، نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي. انتهى كلام ابن جرير.
وجملة القول أن الآية نزلت في اليهود الجاحدين لما أنزل الله، فمن شاركهم في الجَحد، فهو كافر كفرا اعتقاديا، ومن لم يشاركهم في الجحد , فكفرُه عملي لأنه عَمِلَ عملَهم، فهو بذلك مجرم آثم، ولكن لا يخرج بذلك عن الملة كما تقدم عن ابن عباس - رضي الله عنه -.
وقد شرح هذا وزاده بيانا الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم ابن سلام في " كتاب الإيمان " , " باب الخروج من الإيمان بالمعاصي " (ص ٨٤ - ٨٧ - بتحقيقي) فليراجعه من شاء المزيد من التحقيق.
وبعد كتابة ما سبق، رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في تفسير آية الحُكْم المتقدمة في " مجموع الفتاوى " (٣/ ٢٦٨): " أي: هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله ".
ثم ذكر (٧/ ٢٥٤) أن الإمام أحمد سُئِل عن الكفر المذكور فيها؟ ,
فقال: كفرٌ لا ينقل عن الإيمان، مثلُ الإيمان , بعضه دون بعض، فكذلك الكفر، حتى يجيء من ذلك أمرٌ لا يُختلف فيه.
وقال (٧/ ٣١٢): " وإذا كان من قول السلف أن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق، فكذلك في قولهم أنه يكون فيه إيمان وكفر، وليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، قالوا: كفرا لا ينقل عن الملة , وقد اتبعهم على ذلك أحمد , وغيره من أئمة السنة ". أ. هـ
وأوصى بعضهم الخليفة المستنجد العباسي فقال يا أمير المؤمنين: أهل الفهم السليم والذوق الصالح تجتمع همتهم على الحق، ويترعرعون في بحبوحة العدل والإحسان، فكبيرهم وصغيرهم، أميرهم ومأمورهم، حرهم وعبدهم في الدين سواء، ولكل منهم مقام معلوم.
لا تشبُّ فيهم نار الشقاق، ولا يتحكم فيهم سلطان سوء الأخلاق , يحكمون بما أنزل الله، ولا يزالون في أمان الله.
ولو احتالوا في الحكم فجعلوا له وجهاً في الظاهر، وأبطنوا الباطل، يقول لهم الحكم العدل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة الآية (٤٧)].
فإذا أظهروا الباطل، وهيئوا له سبيلاً شرعياً، أدخلته غلبتهم وشوكتهم في الحكم , قال الحق تعالى لهم: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [سورة المائدة الآية (٤٥)].
فإذا أظهروا الباطل وانتحلوا له سبيلاً من الرأي استصغاراً لحكمة الشرع، وتعزُّزاً بالأمر، فحكموا به، قال لهم المنتقم الجبار: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة، الآية٤٤]