للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(خ م حم) , وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: (إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ (١) لَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ الْقَوْمُ؟ " , قَالُوا: رَبِيعَةُ (٢) قَالَ: " مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ (٣) غَيْرَ خَزَايَا (٤) وَلَا نَدَامَى (٥)) (٦) (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ الْقَيْسِ إِذْ أَسْلَمُوا طَائِعِينَ غَيْرَ كَارِهِينَ , غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَوْتُورِينَ , إِذْ بَعْضُ قَوْمِنَا لَا يُسْلِمُونَ حَتَّى يُخْزَوْا وَيُوتَرُوا , قَالَ: وَابْتَهَلَ وَجْهَهُ هَاهُنَا حَتَّى اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو لِعَبْدِ الْقَيْسِ , ثُمَّ قَالَ: إِنَّ خَيْرَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ عَبْدُ الْقَيْسِ ") (٧) (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ (٨) إِنَّا نَاتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ (٩)) (١٠) (وَإِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَاتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ (١١) وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ (١٢) مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ , فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ (١٣) نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ [إِذَا نَحْنُ أَخَذْنَا بِهِ] (١٤) وَنُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَسَأَلُوهُ عَنْ الْأَشْرِبَةِ , " فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ , وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللهِ وَحْدَهُ؟ " , قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: " شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ (١٥) وَإِقَامُ الصَلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ (١٦) وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ (١٧) وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ الْحَنْتَمِ، وَالدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ (١٨) ") (١٩)

(فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ , جَعَلَنَا اللهُ فِدَاءَكَ , أَوَتَدْرِي مَا النَّقِيرُ؟ , قَالَ: " بَلَى , جِذْعٌ تَنْقُرُونَهُ , فَتَقْذِفُونَ فِيهِ مِنْ التَّمْرِ , ثُمَّ تَصُبُّونَ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ , حَتَّى إِذَا سَكَنَ غَلَيَانُهُ شَرِبْتُمُوهُ , حَتَّى إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَضْرِبُ ابْنَ عَمِّهِ بِالسَّيْفِ " - قَالَ: وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ كَذَلِكَ , قَالَ: وَكُنْتُ أَخْبَؤُهَا حَيَاءً مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا: فَفِيمَ نَشْرَبُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " فِي أَسْقِيَةِ الْأَدَمِ (٢٠) الَّتِي يُلَاثُ (٢١) عَلَى أَفْوَاهِهَا " , فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَرْضَنَا كَثِيرَةُ الْجِرْذَانِ , وَلَا تَبْقَى بِهَا أَسْقِيَةُ الْأَدَمِ , فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ , وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ , وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ ") (٢٢) (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ , فَإِنْ اشْتَدَّ فِي الْأَسْقِيَةِ (٢٣) قَالَ: " فَصُبُّوا عَلَيْهِ الْمَاءَ " , قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ , فَقَالَ لَهُمْ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ (٢٤): " أَهْرِيقُوهُ) (٢٥) (ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْخَمْرَ، وَالْمَيْسِرَ (٢٦) وَالْكُوبَةَ (٢٧) وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ) (٢٨) (وَقَالَ: احْفَظُوهُنَّ , وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ ") (٢٩)


(١) الْوَفْد: الْجَمَاعَةُ الْمُخْتَارَةُ لِلتَّقَدُّمِ فِي لُقِيِّ الْعُظَمَاءِ , وَاحِدُهُمْ: وَافِد , وَوَفْدُ عَبْدِ الْقَيْس الْمَذْكُورُونَ كَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَر رَاكِبًا , كَبِيرهمْ الْأَشَجّ. (فتح - ح٥٣)
(٢) (رَبِيعَة) فِيهِ التَّعْبِير عَنْ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ , لِأَنَّهُمْ بَعْضُ رَبِيعَة. (فتح - ح٥٣)
(٣) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اِسْتِحْبَابِ تَانِيسِ الْقَادِمِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَفِي حَدِيثِ أُمّ هَانِئ: " مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئ " , وَفِي قِصَّة عِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل: " مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِر " , وَفِي قِصَّة فَاطِمَة: " مَرْحَبًا بِابْنَتِي " , وَكُلّهَا صَحِيحَة.
(فتح - ح٥٣)
(٤) أَيْ: أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا طَوْعًا مِنْ غَيْر حَرْبٍ أَوْ سَبْيٍ يُخْزِيهِمْ وَيَفْضَحهُمْ. (فتح ح٥٣)
(٥) قَالَ ابْن أَبِي جَمْرَة: بَشَّرَهُمْ بِالْخَيْرِ عَاجِلًا وَآجِلًا؛ لِأَنَّ النَّدَامَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْعَاقِبَة، فَإِذَا اِنْتَفَتْ , ثَبَتَ ضِدُّهَا.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الثَّنَاءِ عَلَى الْإِنْسَان فِي وَجْهِهِ إِذَا أُمِنَ عَلَيْهِ الْفِتْنَة (فتح-ح٥٣)
(٦) (خ) ٥٣ , (م) ١٧
(٧) (حم) ١٧٨٦٣ , وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.
(٨) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا حِينَ الْمُقَابَلَةِ مُسْلِمِينَ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِمْ: " كُفَّارُ مُضَر " , وَفِي قَوْلهمْ: " اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَم ". (فتح - ح٥٣)
(٩) الشُّقَّة: الْمَسَافَة , سُمِّيَتْ شُقَّةً , لِأَنَّهَا تَشُقُّ عَلَى الْإِنْسَان. النووي (١/ ٨٧)
وكَانَتْ مَسَاكِنُ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْبَحْرَيْنِ وَمَا وَالَاهَا مِنْ أَطْرَافِ الْعِرَاق، وَلِهَذَا قَالُوا: " إِنَّا نَاتِيك مِنْ شُقَّة بَعِيدَة ".
وَيَدُلُّ عَلَى سَبْقِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ مَا رَوَاهُ الْبخاريُّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ: " إِنَّ أَوَّل جُمُعَة جُمِّعَتْ - بَعْد جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ , بِجُوَاثَى مِنْ الْبَحْرَيْنِ "، وَجُوَاثَى: قَرْيَة شَهِيرَة لَهُمْ، وَإِنَّمَا جَمَّعُوا بَعْدَ رُجُوعِ وَفْدِهِمْ إِلَيْهِمْ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ سَبَقُوا جَمِيعَ الْقُرَى إِلَى الْإِسْلَام. (فتح - ح٥٣)
(١٠) (خ) ٨٧ , (م) ١٧
(١١) الْمُرَاد: شَهْرُ رَجَب، وَكَانَتْ مُضَرُ تُبَالِغُ فِي تَعْظِيمِ شَهْرِ رَجَب، فَلِهَذَا أُضِيفَ إِلَيْهِمْ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَة , حَيْثُ قَالَ: " رَجَب مُضَر " , وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخُصُّونَهُ بِمَزِيدِ التَّعْظِيم , مَعَ تَحْرِيمِهِمْ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ الْأُخْرَى، إِلَّا أَنَّهُمْ رُبَّمَا أَنْسَئُوهَا , بِخِلَافِهِ. (فتح - ح٥٣)
(١٢) الْحَيّ: اِسْمٌ لِمَنْزِلِ الْقَبِيلَة، ثُمَّ سُمِّيَتْ الْقَبِيلَةُ بِهِ , لِأَنَّ بَعْضهمْ يَحْيَا بِبَعْضٍ.
(فتح - ح٥٣)
(١٣) " الْفَصْل " بِمَعْنَى الْمُفَصَّل , أَيْ: الْمُبَيَّنُ الْمَكْشُوف.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْفَصْل: الْبَيِّن , وَقِيلَ: الْمُحْكَم. (فتح - ح٥٣)
(١٤) (م) ١٨ , (حم) ١١١٩١
(١٥) الْغَرَض مِنْ ذِكْرِ الشَّهَادَتَيْنِ-مَعَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مُقِرِّينَ بِكَلِمَتَيْ الشَّهَادَة- أَنَّهُمْ رُبَّمَا كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْإِيمَانَ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمَا , كَمَا كَانَ الْأَمْرُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَام. (فتح - ح٥٣)
(١٦) بَيَّنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلْوَفْدِ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَام , حَيْثُ فَسَّرَهُ فِي قِصَّتهمْ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الْإِسْلَامَ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ أَمْرٌ وَاحِد.
وَقَدْ نَقَلَ أَبُو عَوَانَة الْإسْفَرَايِينِيّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ الْمُزَنِيّ صَاحِبِ الشَّافِعِيّ الْجَزْمَ بِأَنَّهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى وَاحِد، وَأَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: الْجَزْمُ بِتَغَايُرِهِمَا، وَلِكُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَدِلَّة مُتَعَارِضَة
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: صَنَّفَ فِي الْمَسْأَلَة إِمَامَانِ كَبِيرَانِ، وَأَكْثَرَا مِنْ الْأَدِلَّة لِلْقَوْلَيْنِ، وَتَبَايَنَا فِي ذَلِكَ , وَالْحَقُّ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا، فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ، وَلَيْسَ كُلّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا. اِنْتَهَى كَلَامه مُلَخَّصًا.
وَمُقْتَضَاهُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُطْلَقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ مَعًا، بِخِلَافِ الْإِيمَان , فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا مَعًا.
وَيَرِدُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَرَضِيت لَكُمْ الْإِسْلَام دِينًا} , فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُنَا يَتَنَاوَلُ الْعَمَلَ وَالِاعْتِقَادَ مَعًا؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ غَيْرُ الْمُعْتَقِدِ , لَيْسَ بِذِي دِينٍ مَرْضِيٍّ , وَبِهَذَا اِسْتَدَلَّ الْمُزَنِيّ وَأَبُو مُحَمَّد الْبَغَوِيُّ , فَقَالَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ جِبْرِيلَ هَذَا:
جَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْإِسْلَامَ هُنَا اِسْمًا لِمَا ظَهَرَ مِنْ الْأَعْمَالِ، وَالْإِيمَانُ اِسْمًا لِمَا بَطَنَ مِنْ الِاعْتِقَاد، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ، وَلَا لِأَنَّ التَّصْدِيقَ لَيْسَ مِنْ الْإِسْلَام , بَلْ ذَاكَ تَفْصِيلٌ لِجُمْلَةٍ كُلُّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ , وَجِمَاعُهَا الدِّين، وَلِهَذَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم - " أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ " , وَقَالَ سُبْحَانه وَتَعَالَى {وَرَضِيت لَكُمْ الْإِسْلَام دِينًا} وَقَالَ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر الْإِسْلَام دِينًا فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ} , وَلَا يَكُون الدِّينُ فِي مَحَلِّ الرِّضَا وَالْقَبُولِ , إِلَّا بِانْضِمَامِ التَّصْدِيق. اِنْتَهَى كَلَامه.
وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَدِلَّةِ , أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّة، كَمَا أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّة، لَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ , بِمَعْنَى التَّكْمِيلِ لَهُ، فَكَمَا أَنَّ الْعَامِلَ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا كَامِلًا إِلَّا إِذَا اِعْتَقَدَ، فَكَذَلِكَ الْمُعْتَقِدُ لَا يَكُون مُؤْمِنًا كَامِلًا إِلَّا إِذَا عَمِلَ، وَحَيْثُ يُطْلَقُ الْإِيمَانُ فِي مَوْضِعِ الْإِسْلَامِ أَوْ الْعَكْس، أَوْ يُطْلَقُ أَحَدُهُمَا عَلَى إِرَادَتِهِمَا مَعًا , فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَاز , وَيَتَبَيَّن الْمُرَاد بِالسِّيَاقِ , فَإِنْ وَرَدَا مَعًا فِي مَقَامِ السُّؤَالِ , حُمِلَا عَلَى الْحَقِيقَة، وَإِنْ لَمْ يَرِدَا مَعًا , أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَقَامِ سُؤَالٍ , أَمْكَنَ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ الْمَجَاز , بِحَسَبِ مَا يَظْهَر مِنْ الْقَرَائِن.
وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَة , قَالُوا: إِنَّهُمَا تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهُمَا بِالِاقْتِرَانِ، فَإِنْ أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا , دَخَلَ الْآخَرُ فِيهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْن نَصْر , وَتَبِعَهُ اِبْنُ عَبْد الْبَرِّ عَنْ الْأَكْثَرِ أَنَّهُمْ سَوَّوْا بَيْنهمَا , عَلَى مَا فِي حَدِيث عَبْد الْقَيْس، وَمَا حَكَاهُ اللَّالِكَائِيّ وَابْن السَّمْعَانِيّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنهمَا عَلَى مَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيل، وَالله الْمُوَفِّق. (فتح - ج١ص١٧٠)
(١٧) فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْف قَالَ فِي رِوَايَة حَمَّاد بْن زَيْد عَنْ أَبِي جَمْرَة " آمُركُمْ بِأَرْبَعٍ: الْإِيمَان بِاللهِ: شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله. وَعَقَدَ وَاحِدَة " كَذَا لِلْمُؤَلِّفِ فِي الْمَغَازِي، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ إِحْدَى الْأَرْبَع.
وَعَلَى هَذَا فَيُقَال: كَيْف قَالَ (أَرْبَع) وَالْمَذْكُورَات خَمْس؟ , وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي عِيَاض - تَبَعًا لِابْنِ بَطَّال - بِأَنَّ الْأَرْبَعَ مَا عَدَا أَدَاءِ الْخُمُس، قَالَ: كَأَنَّهُ أَرَادَ إِعْلَامَهُمْ بِقَوَاعِدِ الْإِيمَانِ وَفُرُوضِ الْأَعْيَان، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ بِمَا يَلْزَمهُمْ إِخْرَاجُهُ إِذَا وَقَعَ لَهُمْ جِهَادٌ , لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِصَدَدِ مُحَارَبَةِ كُفَّارِ مُضَر، وَلَمْ يَقْصِدْ ذِكْرَهَا بِعَيْنِهَا , لِأَنَّهَا مُسَبَّبَةٌ عَنْ الْجِهَاد، وَلَمْ يَكُنْ الْجِهَادُ إِذْ ذَاكَ فَرْضَ عَيْنٍ.
قَالَ: وَكَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ الْحَجَّ , لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ.
وَقَالَ غَيْره: قَوْله " وَأَنْ تُعْطُوا " مَعْطُوف عَلَى قَوْله " بِأَرْبَعٍ " , أَيْ: آمُركُمْ بِأَرْبَعٍ وَبِأَنْ تُعْطُوا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْعُدُولُ عَنْ سِيَاقِ الْأَرْبَعِ , وَالْإِتْيَانُ " بِأَنْ " , وَالْفِعْل , مَعَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِمْ.
قُلْت: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَفْظُ رِوَايَة مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ فِي هَذِهِ الْقِصَّة " آمُركُمْ بِأَرْبَعٍ: اُعْبُدُوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَقِيمُوا الصَّلَاة، وَآتُوا الزَّكَاة، وَصُومُوا رَمَضَان، وَأَعْطُوا الْخُمُس مِنْ الْغَنَائِم ".
وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ أَنَّ السَّبَبَ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَذْكُرْ الْحَجّ فِي الْحَدِيث لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ هُوَ الْمُعْتَمَد، وَقَدْ قَدَّمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى قِدَمِ إِسْلَامِهِمْ، لَكِنْ جَزَمَ الْقَاضِي بِأَنَّ قُدُومَهُمْ كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَان , قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ , تَبِعَ فِيهِ الْوَاقِدِيّ , وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ كَانَ سَنَةَ سِتٍّ عَلَى الْأَصَحّ , وَلَكِنَّ الْقَاضِي يَخْتَارُ أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ كَانَ سَنَةَ تِسْع , حَتَّى لَا يَرِدَ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْر.
وَقَدْ اِحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ لِكَوْنِهِ عَلَى التَّرَاخِي بِأَنَّ فَرْضَ الْحَجّ كَانَ بَعْد الْهِجْرَة، وَأَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ قَادِرًا عَلَى الْحَجّ فِي سَنَة ثَمَان , وَفِي سَنَةِ تِسْعٍ , وَلَمْ يَحُجّ إِلَّا فِي سَنَة عَشْر.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ الْحَجِّ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِلَيْهِ سَبِيلٌ , مِنْ أَجْلِ كُفَّارِ مُضَرَ , لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَالِ تَرْكُ الْإِخْبَارِ بِهِ , لِيُعْمَلَ بِهِ عِنْد الْإِمْكَانِ , كَمَا فِي الْآيَة.
بَلْ دَعْوَى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى الْحَجِّ مَمْنُوعَة , لِأَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُم، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا يَامَنُونَ فِيهَا.
لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ إِنَّمَا أَخْبَرَهُمْ بِبَعْضِ الْأَوَامِرِ لِكَوْنِهِمْ سَأَلُوهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِمَا يَدْخُلُونَ بِفِعْلِهِ الْجَنَّة، فَاقْتَصَرَ لَهُمْ عَلَى مَا يُمْكِنهُمْ فِعْلُهُ فِي الْحَالِ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِعْلَامَهُمْ بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ فِعْلًا وَتَرْكًا.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اِقْتِصَارُهُ فِي الْمَنَاهِي عَلَى الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ, مَعَ أَنَّ فِي الْمَنَاهِي مَا هُوَ أَشَدُّ فِي التَّحْرِيمِ مِنْ الِانْتِبَاذ، لَكِنْ اِقْتَصَرَ عَلَيْهَا لِكَثْرَةِ تَعَاطِيهمْ لَهَا.
وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي كِتَابِ الصِّيَام مِنْ السُّنَن الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ زِيَادَة ذِكْر الْحَجّ , وَلَفْظه " وَتَحُجُّوا الْبَيْت الْحَرَام " , وَلَمْ يَتَعَرَّض لِعَدَدٍ , فَهِيَ رِوَايَة شَاذَّة، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ , وَمَنْ اِسْتَخْرَجَ عَلَيْهِمَا , وَالنَّسَائِيُّ , وَابْن خُزَيْمَةَ , وَابْن حِبَّان مِنْ طَرِيق قُرَّة , لَمْ يَذْكُر أَحَدٌ مِنْهُمْ الْحَجّ , وَأَبُو قِلَابَةَ تَغَيَّرَ حِفْظُهُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ , فَلَعَلَّ هَذَا مِمَّا حَدَّثَ بِهِ فِي التَّغَيُّر، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِرِوَايَةِ أَبِي جَمْرَة , وَقَدْ وَرَدَ ذِكْر الْحَجّ أَيْضًا فِي مُسْنَد الْإِمَام أَحْمَد مِنْ رِوَايَة أَبَانَ الْعَطَّار عَنْ قَتَادَة عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب , وَعَنْ عِكْرِمَة , عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قِصَّة وَفْد عَبْد قَيْس. وَعَلَى تَقْدِير أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْحَجّ فِيهِ مَحْفُوظًا , فَيُجْمَع فِي الْجَوَابِ عَنْهُ بَيْن الْجَوَابَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ , فَيُقَال: الْمُرَاد بِالْأَرْبَعِ مَا عَدَا الشَّهَادَتَيْنِ وَأَدَاءِ الْخُمُس. وَالله أَعْلَم. (فتح - ح٥٣)
(١٨) الْحَنْتَم: هِيَ الْجِرَارُ الْخُضْر، وَالدُّبَّاء: هُوَ الْقَرْع، وَالنَّقِير: أَصْلُ النَّخْلَةِ يُنْقَرُ فَيُتَّخَذُ مِنْهُ وِعَاء , وَالْمُزَفَّت: مَا طُلِيَ بِالزِّفْتِ , وَالْمُقَيَّر: مَا طُلِيَ بِالْقَارِ، وَهُوَ نَبْتٌ يُحْرَقُ إِذَا يَبِسَ , تُطْلَى بِهِ السُّفُن وَغَيْرهَا , كَمَا تُطْلَى بِالزِّفْتِ، قَالَهُ صَاحِبُ الْمُحْكَم.
وَفِي مُسْنَد أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ عَنْ أَبِي بَكْرَة قَالَ: أَمَّا الدُّبَّاء , فَإِنَّ أَهْلَ الطَّائِفِ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْقَرْع , فَيُخَرِّطُونَ فِيهِ الْعِنَب , ثُمَّ يَدْفِنُونَهُ حَتَّى يُهْدَرَ ثُمَّ يَمُوت. وَأَمَّا النَّقِيرُ , فَإِنَّ أَهْلَ الْيَمَامَةِ كَانُوا يَنْقُرُونَ أَصْلَ النَّخْلَة , ثُمَّ يَنْبِذُونَ الرُّطَبَ وَالْبُسْرَ , ثُمَّ يَدْعُونَهُ حَتَّى يُهْدَرَ ثُمَّ يَمُوت.
وَأَمَّا الْحَنْتَم , فَجِرَارٌ كَانَتْ تُحْمَلُ إِلَيْنَا فِيهَا الْخَمْر. وَأَمَّا الْمُزَفَّتُ , فَهَذِهِ الْأَوْعِيَة الَّتِي فِيهَا الزِّفْت. اِنْتَهَى. وَإِسْنَاده حَسَن. وَتَفْسِير الصَّحَابِيّ أَوْلَى أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِه لِأَنَّهُ أَعْلَم بِالْمُرَادِ.
وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ بِخُصُوصِهَا , لِأَنَّهُ يُسْرِعُ فِيهَا الْإِسْكَار، فَرُبَّمَا شَرِبَ مِنْهَا مَنْ لَا يَشْعُر بِذَلِكَ.
ثُمَّ ثَبَتَتْ الرُّخْصَةُ فِي الِانْتِبَاذِ فِي كُلِّ وِعَاءٍ , مَعَ النَّهْيِ عَنْ شُرْبِ كُلّ مُسْكِرٍ. (فتح - ح٥٣)
(١٩) (خ) ٥٣ , (م) ١٧
(٢٠) الأدَم: الجلد المدبوغ.
(٢١) أَيْ: يُلَفُّ الْخَيْطُ عَلَى أَفْوَاهِهَا وَيُرْبَطُ بِهِ. عون المعبود - (ج ٨ / ص ١٩٥)
(٢٢) (م) ١٨ , (د) ٣٦٩٣ , (حم) ١١١٩١
(٢٣) المراد بالاشتداد: الحُموضة.
(٢٤) أَيْ: فِي الْمَرَّة الثَّالِثَة أَوْ الرَّابِعَة. عون المعبود - (ج ٨ / ص ١٩٧)
(٢٥) (د) ٣٦٩٦ , انظر الصحيحة: ٢٤٢٥
(٢٦) المَيْسِر: القِمار.
(٢٧) قَالَ سُفْيَانُ: قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ: مَا الْكُوبَةُ؟ , قَالَ: الطَّبْلُ , (د) ٣٦٩٦ , (حم): ٢٤٧٦ , وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح
قَالَ في المُغْرِب: (الْكُوبَةُ): الطَّبْلُ الصَّغِيرُ الْمُخَصَّرُ , وَقِيلَ: النَّرْدُ.
(٢٨) (حم) ٢٦٢٥ , (د) ٣٦٩٦
(٢٩) (خ) ٥٣ , (م) ١٧