للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(حم) , وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أَخَذَ اللهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ - يَعْنِي عَرَفَةَ - فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا , فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ (١) ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا فَقَالَ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ , قَالُوا: بَلَى شَهِدْنَا , أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ , أَوْ تَقُولُوا: إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ , أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}. (٢)


(١) الذر: صغار النمل.
(٢) (حم) ٢٤٥٥ , (ن) ١١١٩١ , (ك) ٧٥، انظر صَحِيح الْجَامِع: ١٧٠١ , الصحيحة: ١٦٢٣
وقال الألباني: ففي ذلك ردٌّ على قول ابن القيم أيضا في كتاب " الروح " بعد أن سَرَد طائفة من الأحاديث المتقدمة: " وأما مخاطبتهم واستنطاقهم وإقرارهم له بالربوبية , وشهادتهم على أنفسهم بالعبودية , فمن قال من السلف فإنما هو بناء منه على فهم الْآية، والآية لم تدل على هذا , بل دلت على خلافه ". أ. هـ
وقد أفاض ابن القيم جدا في تفسير الْآية , وتأويلها تأويلا ينافي ظاهرها , بل ويعطِّل دِلالتها , أشبه ما يكون بصنيع المعطِّلة لآيات وأحاديث الصفات حين يتأولونها، وهذا خلافُ مذهبِ ابن القيم رحمه الله , الذي تعلمناه منه ومن شيخه ابن تيمية، فلا أدري لماذا خرج عنه هنا , لا سيما وقد نَقَل (ص ١٦٣) عن ابن الأنباري أنه قال: " مذهب أهل الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الْآية: أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وصلب أولاده وهم في صُوَرِ الذَّر , فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم , وأنهم مصنوعون، فاعترفوا بذلك وقبلوا، وذلك بعد أن رَكَّبَ فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم , كما جعل للجبل عقلا حين خوطب، وكما فعل ذلك للبعير لما سجد، والنخلة حتى سمعت وانقادت حين دُعِيَت ". أ. هـ
كما نقل أيضا عن إسحاق بن راهويه: " وأجمع أهل العلم أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد، وأنه استنطقهم وأشهدهم ". أ. هـ
قلت: وفي كلام ابن الأنباري إشارة لطيفة إلى طريقة الجمع بين الْآية والحديث وهو قوله: " إن الله أخرج ذرية آدم من صلبه , وأصلاب أولاده ".
وإليه ذهب الفخر الرازي في " تفسيره " (٤/ ٣٢٣) , وأيده العلامة مُلَّا علي القاري في "مرقاة المفاتيح " (١/ ١٤٠ - ١٤١) , وقال عقب كلام الفخر: قال بعض المحققين: إن الله أخرج بني آدم من ظهره، فكل ما أخرج من ظهورهم فيما لَا يزال إلى يوم القيامة , هم الذين أخرجهم الله تعالى في الأزل من صلب آدم، وأخذ منهم الميثاق الأزلي , ليُعْرَف منه أن النَّسل المُخْرَج فيما لَا يزال من أصلاب بنيه , هو المُخْرَج في الأزل من صلبه، وأخذ منهم الميثاق الأول - وهو المَقَالِيُّ الأزَلي - كما أخذ منهم فيما لَا يزال بالتدريج حين أُخْرِجوا الميثاق الثاني - وهو الحالي الإنزالي -.
والحاصل: أن الله تعالى لما كان له ميثاقان مع بني آدم , أحدهما تهتدي إليه العقول من نَصْب الأدلة الحاملة على الاعتراف الحالي، وثانيهما: المقالي الذي لَا يهتدي إليه العقل، بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد , من الأزل إلى الأبد، كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يُعَلِّم الأمة ويخبرهم أن وراء الميثاق الذي يهتدون إليه بعقولهم ميثاقا آخر أزليًّا , فقال ما قال مِنْ مَسْح ظهر آدم في الأزل , وإخراج ذريته , وأخذه الميثاق عليهم , وبهذا يزول كثير من الإشكالات، فتأمل فيها حق التأمل. أ. هـ
ثم إنه ليلوح لي أننا وإن كنا لَا نتذكر جميعا ذلك الميثاق الرباني - وقد بيَّن العلماء سبب ذلك - فإن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والتي تشهد فعلا بأن الله هو الرب وحده لَا شريك له , إنما هي أثر ذلك الميثاق، وكأن الحسن البصري رحمه الله أشار إلى ذلك حين روى عن الأسود بن سريع مرفوعا: " أَلَا إنها ليست نسمة تولد إِلَّا ولدت على الفطرة ... " الحديث.
قال الحسن عَقِبَه: ولقد قال الله ذلك في كتابه: (وإذ أخذ ربك ...) الْآية. أخرجه ابن جرير (١٥٣٥٣).
ويؤيده أن الحسن من القائلين بأخذ الميثاق الوارد في الأحاديث , كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وعليه , فلا يصح أن يُقال: إن الحسن البصري مع الخَلَف القائلين بأن المراد بالإشهاد المذكور في الْآية , إنما هو فطرهم على التوحيد، كما صنع ابن كثير. والله أعلم. أ. هـ