للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(خ م) , وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (" مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ (١)) (٢) وفي رواية: (إِلَّا يُولَدُ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ) (٣) (حَتَّى يُبَيِّنَ عَنْهُ لِسَانُهُ) (٤) (فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ , أَوْ يُنَصِّرَانِهِ , أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) (٥) (أَوْ يُشَرِّكَانِهِ (٦)) (٧) (فَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ, فَمُسْلِمٌ) (٨) (كَمَا تُنْتِجُ (٩) الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ (١٠)) (١١) (هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ (١٢)؟ , حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا (١٣) ") (١٤) (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا , لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ , ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (١٥) ") (١٦) (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ, أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ؟ , قَالَ: " اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ (١٧) ") (١٨)

الشرح (١٩)


(١) اِخْتَلَفَ السَّلَف فِي الْمُرَاد بِالْفِطْرَةِ فِي هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَقْوَال كَثِيرَة، وَأَشْهَرُ الْأَقْوَال أَنَّ الْمُرَاد بِالْفِطْرَةِ: الْإِسْلَام. قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: وَهُوَ الْمَعْرُوف عِنْد عَامَّة السَّلَف , وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم بِالتَّأوِيلِ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِطْرَة الله الَّتِي فَطَرَ النَّاس عَلَيْهَا}: الْإِسْلَام، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَة فِي آخِر الحَدِيث: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَة الله الَّتِي فَطَرَ النَّاس عَلَيْهَا}.
وَبِحَدِيثِ عِيَاض بْن حِمَار عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَرْوِيه عَنْ رَبِّه: " إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينِهمْ " ,
وَقَالَ اِبْن جَرِير: قَوْله: {فَأَقِمْ وَجْهك لِلدِّينِ} أَيْ: سَدِّدْ لِطَاعَتِهِ.
{حَنِيفًا} أَيْ: مُسْتَقِيمًا.
{فِطْرَة الله} أَيْ: صِبْغَة الله، وَهُوَ مَنْصُوب بِفِعْلٍ مُقَدَّر، أَيْ: اِلْزَمْ.
وَقَدْ قَالَ أَحْمَد: مَنْ مَاتَ أَبَوَاهُ وَهُمَا كَافِرَانِ , حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ.
وَتَعَقَّبَهُ بَعْضُهمْ بِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ اِسْتِرْقَاقُه، وَلَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إِذَا أَسْلَمَ أَحَد أَبَوَيْهِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَدِيثَ سِيقَ لِبَيَانِ مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَا لِبَيَانِ الْأَحْكَام فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ اِبْن الْقَيِّم: لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَة " أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَعْلَمُ الدِّينَ، لِأَنَّ اللهَ يَقُول: {وَالله أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُون أُمَّهَاتكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ فِطْرَتَهُ مُقْتَضِيَةٌ لِمَعْرِفَةِ دِين الْإِسْلَامِ وَمَحَبَّتِه , فَنَفْسُ الْفِطْرَةِ تَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ وَالْمَحَبَّة، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ قَبُولِ الْفِطْرَة لِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَهْوِيدِ الْأَبَوَيْنِ مَثَلًا , بِحَيْثُ يُخْرِجَانِ الْفِطْرَةَ عَنْ الْقَبُولِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى إِقْرَارِه بِالرُّبُوبِيَّةِ , فَلَوْ خُلِّيَ , وَعَدَم الْمُعَارِضَ , لَمْ يَعْدِلْ عَنْ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِه، كَمَا أَنَّهُ يُولَدُ عَلَى مَحَبَّةِ مَا يُلَائِمُ بَدَنَه , مِنْ اِرْتِضَاع اللَّبَن , حَتَّى يَصْرِفَهُ عَنْهُ الصَّارِف، وَمِنْ ثَمَّ شُبِّهَتْ الْفِطْرَةُ بِاللَّبَنِ , بَلْ كَانَتْ إِيَّاهُ فِي تَأوِيل الرُّؤْيَا , وَالله أَعْلَم.
وَقِيلَ: إنَّ الْمُرَاد بِالْفِطْرَةِ: الْخِلْقَة , أَيْ: يُولَدُ سَالِمًا , لَا يَعْرِفُ كُفْرًا وَلَا إِيمَانًا، ثُمَّ يَعْتَقِدُ إِذَا بَلَغَ التَّكْلِيفَ، وَرَجَّحَهُ اِبْن عَبْد الْبَرّ, وَقَالَ: إِنَّهُ يُطَابِقُ التَّمْثِيلَ بِالْبَهِيمَةِ وَلَا يُخَالِفُ حَدِيثَ عِيَاض , لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {حَنِيفًا} أَيْ: عَلَى اِسْتِقَامَة.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ , لَمْ يَكُنْ لِاسْتِشْهَادِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْآيَةِ مَعْنًى.
وَقَالَ اِبْن الْقَيِّم: سَبَبُ اِخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الْفِطْرَة فِي هَذَا الْحَدِيث , أَنَّ الْقَدَرِيَّة كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ لَيْسَا بِقَضَاءِ الله , بَلْ مِمَّا اِبْتَدَأَ النَّاسُ إِحْدَاثَهُ، فَحَاوَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاء مُخَالَفَتَهُمْ بِتَأوِيلِ الْفِطْرَةِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى الْإِسْلَام، وَلَا حَاجَة لِذَلِكَ، لِأَنَّ الْآثَارَ الْمَنْقُولَةَ عَنْ السَّلَفِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ لَفْظِ الْفِطْرَةِ إِلَّا الْإِسْلَام، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى ذَلِكَ مُوَافَقَةُ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّة، لِأَنَّ قَوْله: " فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ إِلَخْ " مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ بِتَقْدِيرِ الله تَعَالَى، وَمِنْ ثَمَّ اِحْتَجَّ عَلَيْهِمْ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي آخِر الْحَدِيث: " اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ ". فتح الباري لابن حجر - (ج ٤ / ص ٤٦٥)
(٢) (م) ٢٣ - (٢٦٥٨) , (خ) ١٢٩٢
(٣) (م) ٢٣ - (٢٦٥٨) , (ت) ٢١٣٨
(٤) (م) ٢٣ - (٢٦٥٨) , (حم) ٧٤٣٨
(٥) (خ) ١٢٩٢ , (م) ٢٤ - (٢٦٥٨)
(٦) أَيْ: أَنَّ الْكُفْر لَيْسَ مِنْ ذَاتِ الْمَوْلُودِ وَمُقْتَضَى طَبْعِهِ، بَلْ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبٍ خَارِجِيّ، فَإِنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ السَّبَب , اِسْتَمَرَّ عَلَى الْحَقّ. فتح الباري (٤/ ٤٦٥)
(٧) (ت) ٢١٣٨ , (م) ٢٣ - (٢٦٥٨)
(٨) (م) ٢٦٥٨
(٩) تُنْتِج: تَلِد.
(١٠) الْجَمْعَاءُ مِنْ الْبَهَائِمِ: الَّتِي لَمْ يَذْهَبْ مِنْ بَدَنِهَا شَيْءٌ , سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ أَعْضَائِهَا. فتح الباري (٤/ ٤٦٥)
(١١) (خ) ١٢٩٢ , (م) ٢٦٥٨
(١٢) الْجَدْعَاء: الْمَقْطُوعَة الْأُذُن. فتح الباري (٤/ ٤٦٥)
(١٣) وَالْمُرَاد: تَمَكُّنُ النَّاسِ مِنْ الْهُدَى فِي أَصْلِ الْجِبِلَّة، وَالتَّهَيُّؤُ لِقَبُولِ الدِّين، فَلَوْ تُرِكَ الْمَرْءُ عَلَيْهَا , لَاسْتَمَرَّ عَلَى لُزُومِهَا , وَلَمْ يُفَارِقْهَا إِلَى غَيْرِهَا، لِأَنَّ حُسْنَ هَذَا الدِّينِ ثَابِتٌ فِي النُّفُوسِ، وَإِنَّمَا يُعْدَلٌ عَنْهُ لِآفَةٍ مِنْ الْآفَاتِ الْبَشَرِيَّة , كَالتَّقْلِيدِ فالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ خَلَقَ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ مُؤَهَّلَةً لِقَبُولِ الْحَقِّ، كَمَا خَلَقَ أَعْيُنَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ قَابِلَةً لِلْمَرْئِيَّاتِ وَالْمَسْمُوعَات، فَمَا دَامَتْ بَاقِيَةً عَلَى ذَلِكَ الْقَبُولِ , وَعَلَى تِلْكَ الْأَهْلِيَّة , أَدْرَكَتْ الْحَقَّ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ الدِّينُ الْحَقّ، حَيْثُ قَالَ: " كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ " , يَعْنِي: أَنَّ الْبَهِيمَةَ تَلِدُ الْوَلَدَ كَامِلَ الْخِلْقَة، فَلَوْ تُرِكَ كَذَلِكَ , كَانَ بَرِيئًا مِنْ الْعَيْب، لَكِنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِيهِ بِقَطْعِ أُذُنِهِ مَثَلًا, فَخَرَجَ عَنْ الْأَصْل، وَهُوَ تَشْبِيهٌ وَاقِعٌ , وَوَجْهُهُ وَاضِحٌ , وَالله أَعْلَم. فتح الباري (٤/ ٤٦٥)
(١٤) (خ) ٦٢٢٦ , (م) ٢٤ - (٢٦٥٨)
(١٥) [الروم/٣٠]
(١٦) (خ) ١٢٩٢ , (م) ٢٢ - (٢٦٥٨)
(١٧) أَيْ: بِمَا هُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوْ النَّار. عون المعبود (١٠/ ٢٢٩)
(١٨) (خ) ٦٢٢٦ , (م) ٢٣ - (٢٦٥٨)
(١٩) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يُوهِم أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُفْتِ السَّائِلَ عَنْهُمْ، وَأَنَّهُ رَدَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إِلَى عِلْمِ اللهِ , مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَعَلَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ أَلْحَقَهُمْ بِالْكَافِرِينَ، وَلَيْسَ هَذَا وَجْهُ الْحَدِيث , وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ مُلْحَقُونَ بِآبَائِهِمْ , لِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ لَوْ بَقُوا أَحْيَاءً حَتَّى يَكْبَرُوا , لَكَانُوا يَعْمَلُونَ عَمَل الْكُفَّار، ويَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأوِيلِ حَدِيثُ عَائِشَة " تُوُفِّيَ صَبِيّ مِنْ الْأَنْصَار، فَقَالَتْ: طُوبَى لَهُ، عُصْفُور مِنْ عَصَافِير الْجَنَّة، لَمْ يَعْمَل السُّوء، وَلَمْ يُدْرِكهُ , فقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: أَوْ غَيْر ذَلِكَ يَا عَائِشَة , إِنَّ الله خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَاب آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَاب آبَائِهِمْ ". عون المعبود - (ج ١٠ / ص ٢٢٩)