قَال الْبُخَارِيُّ ج١ص٥٦: بَابُ أَبْوَالِ الإِبِلِ، وَالدَّوَابِّ، وَالغَنَمِ وَمَرَابِضِهَا ,
وَصَلَّى أَبُو مُوسَى فِي دَارِ البَرِيدِ وَالسِّرْقِينِ، وَالبَرِّيَّةُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: «هَاهُنَا وَثَمَّ سَوَاءٌ»
الشَّرْح:
قَوْلُهُ: (بَابُ أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَالْغَنَمِ) وَالْمُرَادُ بِالدَّوَابِّ مَعْنَاهُ الْعُرْفِيُّ وَهُوَ ذَوَاتُ الْحَافِرِ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ ثُمَّ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ، وَلِهَذَا سَاقَ أَثَرَ أَبِي مُوسَى فِي صَلَاتِهِ فِي دَارِ الْبَرِيدِ؛ لِأَنَّهَا مَاوَى الدَّوَابِّ الَّتِي تُرْكَبُ.
قَوْلُهُ: (وَصَلَّى أَبُو مُوسَى) هُوَ الْأَشْعَرِيُّ وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لَهُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ - هُوَ السُّلَمِيُّ الْكُوفِيُّ - عَنْ أَبِيهِ قَالَ " صَلَّى بِنَا أَبُو مُوسَى فِي دَارِ الْبَرِيدِ وَهُنَاكَ سِرْقِينُ الدَّوَابِّ وَالْبَرِّيَّةِ عَلَى الْبَابِ فَقَالُوا: لَوْ صَلَّيْتَ عَلَى الْبَابِ " فَذَكَرَهُ. وَالسِّرْقِينُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ هُوَ الزِّبْلُ وَحَكَى فِيهِ ابْنُ سِيدَهْ فَتْحَ أَوَّلِهِ وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَيُقَالُ لَهُ السِّرْجِينُ بِالْجِيمِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ حَرْفٌ بَيْنَ الْقَافِ وَالْجِيمِ يَقْرُبُ مِنَ الْكَافِ، وَالْبَرِّيَّةُ الصَّحْرَاءُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْبَرِّ، وَدَارُ الْبَرِيدِ الْمَذْكُورَةُ مَوْضِعٌ بِالْكُوفَةِ كَانَتِ الرُّسُلُ تَنْزِلُ فِيهِ إِذَا حَضَرَتْ مِنَ الْخُلَفَاءِ إِلَى الْأُمَرَاءِ وَكَانَ أَبُو مُوسَى أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَفِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَكَانَتِ الدَّارُ فِي طَرَفِ الْبَلَدِ وَلِهَذَا كَانَتِ الْبَرِّيَّةُ إِلَى جَنْبِهَا. وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: الْبَرِيدُ فِي الْأَصْلِ الدَّابَّةُ الْمُرَتَّبَةُ فِي الرِّبَاطِ ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ الرَّسُولُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا: ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ الْمَسَافَةُ الْمَشْهُورَةُ
قَوْلُهُ: (سَوَاءً) يُرِيدُ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ عِنْدَ أَبِي مُوسَى؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا عَلَى ثَوْبٍ يَبْسُطُهُ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وَقَدْ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنِ الْأَعْمَشِ بِسَنَدِهِ وَلَفْظِهِ " صَلَّى بِنَا أَبُو مُوسَى عَلَى مَكَانٍ فِيهِ سِرْقِينٌ " وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ بِغَيْرِ حَائِلٍ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الطِّنْفِسَةِ مُحْدَثٌ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَبِي مُوسَى وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ كَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً. أَوْ لَعَلَّ أَبَا مُوسَى كَانَ لَا يَرَى الطَّهَارَةَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ بَلْ يَرَاهَا وَاجِبَةً بِرَاسِهَا وَهُوَ مَذْهَبٌ مَشْهُورٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قِصَّةِ الصَّحَابِيِّ الَّذِي صَلَّى بَعْدَ أَنْ جُرِحَ وَظَهَرَ عَلَيْهِ الدَّمُ الْكَثِيرُ فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الرَّوْثَ طَاهِرٌ كَمَا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي ذَاكَ عَلَى أَنَّ الدَّمَ طَاهِرٌ، وَقِيَاسُ غَيْرِ الْمَاكُولِ عَلَى الْمَاكُولِ غَيْرُ وَاضِحٍ؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مُتَّجَهٌ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ رَوْثَ الْمَاكُولِ طَاهِرٌ وَسَنَذْكُرُ مَا فِيهِ قَرِيبًا. وَالتَّمَسُّكُ بِعُمُومِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ " {اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ} " أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي تَنَاوُلِ جَمِيعِ الْأَبْوَالِ هَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَالصَّوَابُ طَهَارَةُ أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَمَا يَاتِي دَلِيْلُهُ فِي حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ، وَ (الْ) فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ) لِلْعَهْدِ، وَالْمَعْهُودُ بَيْنَهُمْ بَوْلُ النَّاسِ كَمَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، وَكُمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْقَبْرَينِ وَأَثَرُ أَبِي مُوسَى الْمَذْكُورُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَيَجِبُ اجْتِنَابُهَا لِهَذَا الْوَعِيدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فتح (١/ ٣٣٥)
مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَة:
وَاخْتَلَفُوا فِي نَجَاسَةِ بَوْلِ وَرَوْثِ الْحَيَوَانِ مَأكُولِ اللَّحْمِ، وَكَذَا خُرْءُ الطَّيْرِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى طَهَارَتِهِمَا فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ أَوْ بَعْدَ ذَكَاتِهِ لِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَلِصَلاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَلأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَوْلُ وَرَوْثُ الْحَيَوَانِ مَأكُولِ اللَّحْمِ نَجِسًا لَتَنَجَّسَتِ الْحُبُوبُ الَّتِي تَدُوسُهَا الْبَقَرُ فَإِنَّهَا لا تَسْلَمُ مِنْ أَبْوَالِهَا.
قال الحافظ: قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ بِنَجَاسَةِ أَبْوَالِ الْغَنَمِ وَأَبْعَارِهَا؛ لِأَنَّ مَرَابِضَ الْغَنَمِ لَا تَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ وَعَدَمُ السَّلَامَةِ مِنْهَا غَالِبٌ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ قُدِّمَ الْأَصْلُ. فتح٤٢٩
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً، أَمَّا رَوْثُهُ فَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ نَجَاسَتُهُ خَفِيفَةٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالْغَلِيظَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ الْخَفِيفَةِ وَقِلَّةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ الْغَلِيظَةِ، لا فِي كَيْفِيَّةِ التَّطْهِيرِ، لأَنَّهُ لا يَخْتَلِفُ بِالْغِلَظِ وَالْخِفَّةِ.
وَأَمَّا خُرْءُ مَا لا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ فَهُوَ نَجِسٌ نَجَاسَةً مُخَفَّفَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَخُرْءُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ طَاهِرٌ إِلا الدَّجَاجَ وَالْبَطَّ الأَهْلِيَّ وَالأَوِزَّ فَنَجَاسَةُ خُرْئِهَا غَلِيظَةٌ لِنَتْنِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَوْلَ الْحَيَوَانِ الْمَأكُولِ اللَّحْمِ نَجِسٌ وَكَذَلِكَ رَوْثُهُ، وَكَذَا ذَرْقُ الطَّيْرِ، لِمَا وَرَدَ " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جِيءَ لَهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ لِيَسْتَنْجِيَ بِهَا أَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَدَّ الرَّوْثَةَ وَقَالَ: هَذَا رِكْسٌ "، وَالرِّكْسُ النَّجَسُ.
وَأَمَّا أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُرَنِيِّينَ بِشُرْبِ أَبْوَالِ الإِبِلِ فَكَانَ لِلتَّدَاوِي، وَالتَّدَاوِي بِالنَّجِسِ جَائِزٌ عِنْدَ فَقْدِ الطَّاهِرِ إِلا خَالِصَ الْخَمْرِ، وَلأَنَّ أَبْوَالَ مَأكُولِ اللَّحْمِ وَأَرْوَاثَهَا مِمَّا اسْتَحَالَ بِالْبَاطِنِ، وَكُلُّ مَا اسْتَحَالَ بِالْبَاطِنِ نَجِسٌ. (١)
(١) بدائع الصنائع ١/ ٨٠، ٨١، والفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية ١/ ١٩، والفتاوى الهندية ١/ ٤٦ ـ ٤٨، والاختيار شرح المختار ١/ ٣٠ ـ ٣٣ ط مصطفى الحلبي ١٩٣٦، ومراقي الفلاح ص ٣٠، وجواهر الإكليل ١/ ٩، وحاشية الدسوقي ١/ ٥١، والشرح الصغير ١/ ٤٧، وحاشية الجمل على المنهج ١/ ١٧٤، والمجموع ٢/ ٥٥٠، والمغني ١/ ٧٣١ ـ ٨٣٢، ومطالب أولي النهى ١/ ٢٣٤، ومغني المحتاج ١/ ٧٩.