للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(خ م) , وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: (كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ (١) " فَأَتَانَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَعَدَ " وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ, " وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ (٢) فَنَكَّسَ (٣) فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ (٤) ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) (٥) (إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ , وَمَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ ") (٦) (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ , أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟) (٧) (فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ , فَسَيَصِيرُ إِلَى السَّعَادَةِ , وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ , فَسَيَصِيرُ إِلَى الشَّقَاوَةِ (٨) فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " بَلْ اعْمَلُوا , فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ (٩) أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ , فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ , وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ , فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ (١٠) ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى (١١) وَاتَّقَى (١٢) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (١٣) فَسَنُيَسِّرُهُ (١٤) لِلْيُسْرَى (١٥) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ (١٦) وَاسْتَغْنَى (١٧) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (١٨) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٩)} (٢٠) ") (٢١)

الشرح (٢٢)


(١) الْبَقِيع: مَقْبَرَة الْمُسْلِمِينَ بالمدينة.
(٢) المِخْصَرَة: عَصًا أَوْ قَضِيبٌ , يُمْسِكهُ الرَّئِيسُ لِيَتَوَكَّأَ عَلَيْهِ , وَيَدْفَعَ بِهِ عَنْهُ , وَيُشِيرَ بِهِ لِمَا يُرِيدُ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُحْمَلُ تَحْتَ الْخِصْرِ غَالِبًا لِلِاتِّكَاءِ عَلَيْهَا. (فتح) - (ج ١٨ / ص ٤٤٩)
(٣) أَيْ: خَفَضَ رَأسَهُ وَطَأطَأَ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى هَيْئَة الْمَهْمُوم. النووي (٨/ ٤٩٤)
(٤) أَيْ: يَضْرِبُ الْأَرْضَ بِطَرَفِهِ , فِعْلَ الْمُتَفَكِّرِ فِي شَيْءٍ مُهِمٍّ. تحفة (٨/ ٢٢٨)
(٥) (خ) ١٢٩٦
(٦) (خ) ٤٦٦١
(٧) (خ) ١٢٩٦
(٨) أَيْ: أَلَّا نَتْرُكُ مَشَقَّةَ الْعَمَلِ؟ , فَإِنَّا سَنُصَيَّرُ إِلَى مَا قُدِّرَ عَلَيْنَا. عون (١٠/ ٢١٤)
(٩) أَيْ: لِمَا خُلِقَ لَهُ. عون المعبود - (ج ١٠ / ص ٢١٤)
(١٠) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجَوَابُ مِنْ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيم , فَمَنَعَهُمْ عَنْ تَرْكِ الْعَمَلِ , وَأَمَرَهُمْ بِالْتِزَامِ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الْعُبُودِيَّة , وَزَجَرَهُمْ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ , فَلَا يَجْعَلُوا الْعِبَادَةَ وَتَرْكَهَا سَبَبًا مُسْتَقِلًّا لِدُخُولِ الْجَنَّة وَالنَّار , بَلْ هِيَ عَلَامَاتٌ فَقَطْ. عون المعبود - (ج ١٠ / ص ٢١٤)
(١١) أَيْ: حَقَّ اللهِ , وَبَذْلَ مَالَهُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ. تحفة الأحوذي (٨/ ٢٢٨)
(١٢) أَيْ: اتقَى اللهَ , فَاجْتَنَبَ مَحَارِمَهُ. تحفة الأحوذي - (ج ٨ / ص ٢٢٨)
(١٣) أَيْ: صَدَّقَ بِالْجَنَّةِ، وَقِيلَ: صَدَّقَ بِمَوْعِدِ اللهِ الَّذِي وَعَدَهُ أَنْ يُثِيبَهُ. تحفة (٨/ ٢٢٨)
(١٤) أَيْ: نُهَيِّئُهُ فِي الدُّنْيَا. تحفة الأحوذي - (ج ٨ / ص ٢٢٨)
(١٥) أَيْ: لِلْخَلَّةِ الْيُسْرَى , وَهِيَ الْعَمَلُ بِمَا يَرْضَاهُ رَبُّهُ. تحفة الأحوذي (٨/ ٢٢٨)
(١٦) أَيْ: بِحَقِّ اللهِ. تحفة الأحوذي - (ج ٨ / ص ٢٢٨)
(١٧) أَيْ: بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا عَنْ ثَوَابِ اللهِ تَعَالَى , فَلَمْ يَرْغَبْ فِيهِ. تحفة (٨/ ٢٢٨)
(١٨) أَيْ: كَذَّبَ بِمَا وَعَدَهُ اللهُ - عز وجل - مِنْ الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ. تحفة الأحوذي (٨/ ٢٢٨)
(١٩) أَيْ: لِلْخَلَّةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى النَّارِ , فَتَكُونُ الطَّاعَةُ أَعْسَرَ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَأَشَدَّ.
وَسَمَّى طَرِيقَةَ الْخَيْرِ بِالْيُسْرَى لِأَنَّ عَاقِبَتَهَا الْيُسْرُ , وَطَرِيقَةَ الشَّرِّ بِالْعُسْرَى لِأَنَّ عَاقِبَتَهَا الْعُسْرُ. تحفة الأحوذي - (ج ٨ / ص ٢٢٨)
(٢٠) [الليل/٥ - ١٠]
(٢١) (حم) ١٠٦٧ , (خ) ١٢٩٦ , (م) ٢٦٤٧ , وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(٢٢) فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا دَلَالَاتٌ ظَاهِرَةٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْوَاقِعَاتِ بِقَضَاءِ اللهِ تَعَالَى وَقَدَرِه؛ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَنَفْعِهَا وَضَرِّهَا، قَالَ الله تَعَالَى: {لَا يُسْأَل عَمَّا يَفْعَل وَهُمْ يُسْأَلُونَ} فَهُوَ مُلْكٌ للهِ تَعَالَى , يَفْعَل مَا يَشَاء، وَلَا اِعْتِرَاضَ عَلَى الْمَالِكِ فِي مُلْكِهِ، وَلِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا عِلَّةَ لِأَفْعَالِهِ. قَالَ الْإِمَام أَبُو الْمُظَفَّر السَّمْعَانِيّ: سَبِيلُ مَعْرِفَة هَذَا الْبَاب: التَّوْقِيفُ مِنْ الْكِتَاِب وَالسُّنَّةِ , دُونَ مَحْضِ الْقِيَاسِ , وَمُجَرَّدِ الْعُقُول، فَمَنْ عَدَلَ عَنْ التَّوْقِيفِ فِيهِ ضَلَّ , وَتَاهَ فِي بِحَارِ الْحَيْرَةِ، وَلَمْ يَبْلُغْ شِفَاءَ النَّفْسِ، وَلَا يَصِلُ إِلَى مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الْقَدَرَ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي ضُرِبَتْ مِنْ دُونهَا الْأَسْتَارِ، وَاخْتَصَّ اللهُ بِهِ وَحَجَبَهُ عَنْ عُقُول الْخَلْقِ وَمَعَارِفِهِمْ؛ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ الْحِكْمَة , وَوَاجِبُنَا أَنْ نَقِفَ حَيْثُ حَدَّ لَنَا، وَلَا نَتَجَاوَزَهُ، وَقَدْ طَوَى اللهُ تَعَالَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنِ الْعَالَمِ، فَلَمْ يَعْلَمْهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ.
وَقِيلَ: إِنَّ سِرّ الْقَدَرِ يَنْكَشِفُ لَهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ، وَلَا يَنْكَشِفُ قَبْل دُخُولِهَا , وَالله أَعْلَم.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث النَّهْيُ عَنْ تَرْكِ الْعَمَلِ وَالِاتِّكَالِ عَلَى مَا سَبَقَ بِهِ الْقَدَرُ، بَلْ تَجِبُ الْأَعْمَالُ وَالتَّكَالِيفُ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْع بِهَا، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ , لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِه، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل السَّعَادَةِ , يَسَّرَهُ الله لِعَمَلِ السَّعَادَة، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ , يَسَّرَهُ اللهُ لِعَمَلِهِمْ , كَمَا قَالَ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَلِلْعُسْرَى} وَكَمَا صَرَّحَتْ بِهِ هَذِهِ الْأَحَادِيث. شرح النووي (ج ٨ / ص ٤٩٤)
قلت: إن ترْكَ العمل اعتمادا على ما سبق للمرء من سعادة أو شقاء مُحَالٌ عَقْلًا , فالإنسان في هذه الدنيا لا بد له وأن يعمل , أعني أنه لا بد له أن يأكل , ويشرب وينام , ويعمل عملا يجني منه رزقه , لا بد له أن يتزوج وينجب الأولاد , لا بد له أن يتكلم , لا بد له أن يبيع ويشتري , فهذه كلها أعمال لا ينفك عنها الإنسان ما دام حيا , فترْكُ العملِ مُحَالٌ عَقْلًا , لا يستطيعه حتى ولو أراده.
لكن الإنسان مُؤاخذٌ بالكيفية التي يؤدي بها هذا العمل , هل يقوم بهذا العمل وِفق أوامر الله؟ , أم أنه يفعله بحسب ما تشتهيه نفسه , ويزينه له شيطانه؟ , فالإنسان مثلا لا بد له من عمل يجتني منه رزقه , لكن الثواب والعقاب متعلِّقٌ بنوعية هذا العمل , هل هو عمل حلال , أو حرام , ثم لو كان العمل حلالا , هل قام بإتقان هذا العمل؟ , أم أنه غش , وخان , وغل , وسرق .. إلخ.
كذلك الأمر بالنسبة للتكاليف التي فرضها الله على الإنسان كالصلاة والصوم وغيرها , فالإنسان مُؤاخذٌ بمدى استجابته لهذه التكاليف , فعندما يحين موعد صلاة الفجر مثلا , هل يقوم من نومه , ويؤدي ما فرضه الله عليه؟ , أم أنه يستمر في نومه ويترك الصلاة؟.
فكما ترى , فإنه لا بد للإنسان أن يعمل أحد هذين الأمريْن , لا مناص له من ذلك , فهذا هو معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ , فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ " , أَيْ: أن اللهَ يُيَسِّرُ لعبده الطريق التي يريده أن يسلكها , فيجعلها سهلة عليه , قال تعالى:} وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ , وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات/٧]. فالله - عز وجل - حَبَّبَ للمؤمنين الإيمان , وكرَّه لهم الكفر.
أما الفريق الآخر , فاللهُ حَبَّبَ إليهم الضِّدَ والنقيض , وهذا هو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ , فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ " , قال تعالى:} إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ {[النمل: ٤]
وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا , فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ , وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ , فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر/٨]
فالتَّحْبيب , والتَّكْرِيهُ , والتَّزْيِينُ , كلُّه بيد الله , لأن القلوب بين يديه - كما سيأتي في الأبواب القادمة - وينبني على هذا التَّحْبيبِ والتَّكْرِيهِ والتَّزْيِينِ أعمالٌ , وهذه الأعمال هي التي يؤاخذ عليها الإنسان. ع