للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(خ م) , وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأمَرَ (١) وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأذَنَ , قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ , قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ (٢) " (٣)


(١) الاستئمار: الاستئذان والاستشارة.
(٢) قَالَ ابْن الْمُنْذِر: يُسْتَحَبّ إِعْلَام الْبِكْر أَنَّ سُكُوتهَا إِذْن، لَكِنْ لَوْ قَالَتْ بَعْد الْعَقْد: مَا عَلِمْت أَنَّ صَمْتِي إِذْن , لَمْ يَبْطُل الْعَقْد بِذَلِكَ عِنْد الْجُمْهُور، وَأَبْطَلَهُ بَعْض الْمَالِكِيَّة،
وَقَالَ ابْن شَعْبَان مِنْهُمْ: يُقَال لَهَا ذَلِكَ ثَلَاثًا: إِنْ رَضِيت فَاسْكُتِي وَإِنْ كَرِهْت فَانْطِقِي , وَقَالَ بَعْضهمْ: يُطَال الْمَقَام عِنْدهَا لِئَلَّا تَخْجَل فَيَمْنَعهَا ذَلِكَ مِنْ الْمُسَارَعَة , وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا لَمْ تَتَكَلَّم بَلْ ظَهَرَتْ مِنْهَا قَرِينَة السُّخْط أَوْ الرِّضَا بِالتَّبَسُّمِ مَثَلًا أَوْ الْبُكَاء، فَعِنْد الْمَالِكِيَّة إِنْ نَفَرَتْ أَوْ بَكَتْ أَوْ قَامَتْ أَوْ ظَهَرَ مِنْهَا مَا يَدُلّ عَلَى الْكَرَاهَة لَمْ تُزَوَّج،
وَعِنْد الشَّافِعِيَّة لَا أَثَر لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَنْع إِلَّا إِنْ قُرِنَتْ مَعَ الْبُكَاء الصِّيَاح وَنَحْوه، وَفَرَّقَ بَعْضهمْ بَيْن الدَّمْع , فَإِنْ كَانَ حَارًّا دَلَّ عَلَى الْمَنْع , وَإِنْ كَانَ بَارِدًا دَلَّ عَلَى الرِّضَا , قَالَ: وَفِي هَذَا الْحَدِيث إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْبِكْر الَّتِي أُمِرَ بِاسْتِئْذَانِهَا هِيَ الْبَالِغ، إِذْ لَا مَعْنَى لِاسْتِئْذَانِ مَنْ لَا تَدْرِي مَا الْإِذْن، وَمَنْ يَسْتَوِي سُكُوتهَا وَسَخَطهَا , وَنَقَلَ اِبْن عَبْد الْبَرّ عَنْ مَالِك أَنَّ سُكُوت الْبِكْر الْيَتِيمَة قَبْل إِذْنهَا وَتَفْوِيضهَا لَا يَكُون رِضًا مِنْهَا، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ بَعْد تَفْوِيضهَا إِلَى وَلِيّهَا وَخَصَّ بَعْض الشَّافِعِيَّة الِاكْتِفَاء بِسُكُوتِ الْبِكْر الْبَالِغ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَب وَالْجَدّ دُون غَيْرهمَا، لِأَنَّهَا تَسْتَحِي مِنْهُمَا أَكْثَر مِنْ غَيْرهمَا , وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور اِسْتِعْمَال الْحَدِيث فِي جَمِيع الْأَبْكَار بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الْأَوْلِيَاء،
وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَب يُزَوِّج الْبِكْر الْبَالِغ بِغَيْرِ إِذْنهَا , فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَنَفِيَّة وَوَافَقَهُمْ أَبُو ثَوْر: يُشْتَرَط اِسْتِئْذَانهَا، فَلَوْ عَقَدَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ اِسْتِئْذَان لَمْ يَصِحّ , وَقَالَ الْآخَرُونَ: يَجُوز لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجهَا وَلَوْ كَانَتْ بَالِغًا بِغَيْرِ اِسْتِئْذَان، وَهُوَ قَوْل اِبْن أَبِي لَيْلَى وَمَالِك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق، وَمِنْ حُجَّتهمْ مَفْهُوم حَدِيث الْبَاب , لِأَنَّهُ جَعَلَ الثَّيِّب أَحَقّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيّهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وَلِيّ الْبِكْر أَحَقّ بِهَا مِنْهَا , وَاحْتَجَّ بَعْضهمْ بِحَدِيثِ يُونُس بْن أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا " تُسْتَأمَر الْيَتِيمَة فِي نَفْسهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إِذْنهَا " , قَالَ: فَقُيِّدَ ذَلِكَ بِالْيَتِيمَةِ , فَيُحْمَل الْمُطْلَق عَلَيْهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ , لِحَدِيثِ اِبْن عَبَّاس الَّذِي ذَكَرْته بِلَفْظِ " يَسْتَأذِنهَا أَبُوهَا " , فَنَصَّ عَلَى ذِكْرِ الْأَب , وَأَجَابَ الشَّافِعِيّ بِأَنَّ الْمُؤَامَرَة قَدْ تَكُون عَنْ اِسْتِطَابَة النَّفْس، وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث اِبْن عُمَر رَفَعَهُ " وَأمُرُوا النِّسَاء فِي بَنَاتهنَّ " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، قَالَ الشَّافِعِيّ: لَا خِلَاف أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأُمِّ أَمْر، لَكِنَّهُ عَلَى مَعْنَى اِسْتِطَابَة النَّفْس ,
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: زِيَادَة ذِكْرِ الْأَب فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس غَيْر مَحْفُوظَة، قَالَ الشَّافِعِيّ: زَادَهَا اِبْن عُيَيْنَةَ فِي حَدِيثه، وَكَانَ اِبْن عُمَر وَالْقَاسِم وَسَالِم يُزَوِّجُونَ الْأَبْكَار لَا يَسْتَأمِرُونَهُنَّ؛ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالْمَحْفُوظ فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس " الْبِكْر تُسْتَأمَر " وَرَوَاهُ صَالِح بْن كَيْسَانَ بِلَفْظِ " وَالْيَتِيمَة تُسْتَأمَر " , وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو بُرْدَة عَنْ أَبِي مُوسَى , وَمُحَمَّد بْن عَمْرو عَنْ أَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْبِكْرِ الْيَتِيمَة , قُلْت: وَهَذَا لَا يَدْفَع زِيَادَة الثِّقَة الْحَافِظ بِلَفْظِ الْأَب، وَلَوْ قَالَ قَائِل: بَلْ الْمُرَاد بِالْيَتِيمَةِ الْبِكْر لَمْ يُدْفَع , وَتُسْتَأمَر بِضَمِّ أَوَّله يَدْخُل فِيهِ الْأَب وَغَيْره فَلَا تَعَارُض بَيْن الرِّوَايَات، وَيَبْقَى النَّظَر فِي أَنَّ الِاسْتِئْمَار هَلْ هُوَ شَرْط فِي صِحَّة الْعَقْد أَوْ مُسْتَحَبّ عَلَى مَعْنَى اِسْتِطَابَة النَّفْس كَمَا قَالَ الشَّافِعِيّ كُلّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مُحْتَمِل، , وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَة الثَّيِّب لَا إِجْبَار عَلَيْهَا لِعُمُومِ كَوْنهَا أَحَقّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيّهَا، وَعَلَى أَنَّ مَنْ زَالَتْ بَكَارَتهَا بِوَطْءٍ وَلَوْ كَانَ زِنًا لَا إِجْبَار عَلَيْهَا لِأَبٍ وَلَا غَيْره لِعُمُومِ قَوْله " الثَّيِّب أَحَقّ بِنَفْسِهَا " , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: هِيَ كَالْبِكْرِ، وَخَالَفَهُ حَتَّى صَاحِبَاهُ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ عِلَّة الِاكْتِفَاء بِسُكُوتِ الْبِكْر هُوَ الْحَيَاء , وَهُوَ بَاقٍ فِي هَذِهِ لِأَنَّ الْمَسْأَلَة مَفْرُوضَة فِيمَنْ زَالَتْ بَكَارَتهَا بِوَطْءٍ لَا فِيمَنْ اِتَّخَذَتْ الزِّنَا دَيْدَنًا وَعَادَة , وَأُجِيب بِأَنَّ الْحَدِيث نَصَّ عَلَى أَنَّ الْحَيَاء يَتَعَلَّق بِالْبِكْرِ وَقَابَلَهَا بِالثَّيِّبِ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمهمَا مُخْتَلِف، وَهَذِهِ ثَيِّب لُغَة وَشَرْعًا , بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ كُلّ ثَيِّب فِي مِلْكِهِ دَخَلْت إِجْمَاعًا، وَأَمَّا بَقَاء حَيَائِهَا كَالْبِكْرِ فَمَمْنُوع ,
لِأَنَّهَا تَسْتَحْيِ مِنْ ذِكْرِ وُقُوع الْفُجُور مِنْهَا، وَأَمَّا ثُبُوت الْحَيَاء مِنْ أَصْل النِّكَاح فَلَيْسَتْ فِيهِ كَالْبِكْرِ الَّتِي لَمْ تُجَرِّبهُ قَطُّ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ لِلثَّيِّبِ أَنْ تَتَزَوَّج بِغَيْرِ وَلِيّ، وَلَكِنَّهَا لَا تُزَوِّج نَفْسهَا بَلْ تَجْعَل أَمْرهَا إِلَى رَجُل فَيُزَوِّجهَا، حَكَاهُ اِبْن حَزْم عَنْ دَاوُدَ، وَتَعَقَّبَهُ بِحَدِيثِ عَائِشَة " أَيّمَا اِمْرَأَة نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْن وَلِيّهَا فَنِكَاحهَا بَاطِل " وَهُوَ حَدِيث صَحِيح كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ يُبَيِّن أَنَّ مَعْنَى قَوْله " أَحَقّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيّهَا , أَنَّهُ لَا يَنْفُذ عَلَيْهَا أَمَرَهُ بِغَيْرِ إِذْنهَا وَلَا يَجْبُرهَا، فَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَتَزَوَّج لَمْ يَجُزْ لَهَا إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيّهَا , وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْبِكْر إِذَا أَعْلَنَتْ بِالْمَنْعِ لَمْ يَجُزْ النِّكَاح، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّف فِي التَّرْجَمَة، وَإِنْ أَعْلَنَتْ بِالرِّضَا فَيَجُوز بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَشَذَّ بَعْض أَهْل الظَّاهِر فَقَالَ: لَا يَجُوز أَيْضًا وُقُوفًا عِنْد ظَاهِر قَوْله " وَإِذْنهَا أَنْ تَسْكُت ". فتح الباري (ج ١٤ / ص ٣٩٦)
(٣) (خ) ٤٨٤٣ , (م) ٦٤ - (١٤١٩) , (ت) ١١٠٧ , (س) ٣٢٦٧ , (د) ٢٠٩٢ , (حم) ٧٣٩٨