للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(طب) , وَعَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ قَالَ: لَمَّا دَنَا عَلِيٌّ - رضي الله عنه - وَأَصْحَابُهُ مِنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ - رضي الله عنهما - وَدَنَتِ الصُّفُوفُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ , خَرَجَ عَلِيٌّ فَنَادَى: ادْعُوا لِي الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، فَدُعِيَ لَهُ , فَأَقْبَلَ حَتَّى اخْتَلَفَتْ أَعْنَاقُ دَوَابِّهِمَا، فَقَالَ: يَا زُبَيْرُ، نَشَدْتُكَ اللهَ , أَتَذْكُرُ يَوْمَ مَرَّ بِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ كَذَا وَكَذَا وَقَالَ: " يَا زُبَيْرُ، أَتُحِبُّ عَلِيًّا؟ "، قُلْتَ: أَلَا أُحِبُّ ابْنَ خَالِي , وَابْنَ عَمَّتِي وَعَلَى دِينِي؟ , فَقَالَ: " يَا عَلِيُّ أَتُحِبُّهُ؟ "، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ , أَلَا أُحِبُّ ابْنَ عَمَّتِي , وَعَلَى دِينِي؟ , فَقَالَ: " يَا زُبَيْرُ , أَمَا وَاللهِ لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ " , قَالَ: بَلَى وَاللهِ , لَقَدْ أُنْسِيْتُهُ مُنْذُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ ذَكَرْتُهُ الْآنَ، وَاللهِ لَا أُقَاتِلُكَ، فَرَجَعَ الزُّبَيْرُ عَلَى دَابَّتِهِ يَشُقُّ الصُّفُوفَ. (١)

الشرح (٢)


(١) (كنز) ٣١٦٥٢ , (ك) ٥٥٧٥ , انظر الصَّحِيحَة: ٢٦٥٩
(٢) قال ابن كثير في (البداية والنهاية) ط هجر (١٠/ ٤٤٨ - ٤٧٢) (مُخْتَصَرًا):
كَانَ مِنَ الْمَشْهُورِينَ مِنْ رُؤَسَاءِ مَنِ انْضَافَ إِلَى عَلِيٍّ: الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَسِعْرُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِنْدُ بْنُ عَمْرٍو , وَالْهَيْثَمُ بْنُ شِهَابٍ , وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ , وَالْأَشْتَرُ , وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ , وَالْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ, وَيَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ, وَحُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ , وَأَمْثَالُهُمْ وَكَانَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ بِكَمَالِهَا بَيْنَ عَلِيٍّ وَبَيْنَ الْبَصْرَةِ يَنْتَظِرُونَهُ وَهُمْ أُلُوفٌ , فَبَعَثَ عَلِيٌّ الْقَعْقَاعَ رَسُولًا إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ بِالْبَصْرَةِ , يَدْعُوهُمَا إِلَى الْأُلْفَةِ وَالْجَمَاعَةِ , وَيُعَظِّمُ عَلَيْهِمَا الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ , فَذَهَبَ الْقَعْقَاعُ إِلَى الْبَصْرَةِ , فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ , فَقَالَ: أَيْ أُمَّهْ , مَا أَقْدَمَكِ هَذِهِ الْبَلْدَةَ؟ , فَقَالَتْ: أَيْ بُنَيَّ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ , فَسَأَلَهَا أَنْ تَبْعَثَ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ لِيَحْضُرَا عِنْدَهَا , فَحَضَرَا , فَقَالَ الْقَعْقَاعُ: إِنِّي سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَقْدَمَهَا؟ , فَقَالَتِ: الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ , فَقَالَا: وَنَحْنُ كَذَلِكَ , قَالَ: فَأَخْبِرَانِي , مَا وَجْهُ هَذَا الْإِصْلَاحِ؟ , فَوَاللهِ لَئِنْ عَرَفْنَاهُ لِنَصْطَلِحَنَّ , وَلَئِنْ أَنْكَرْنَاهُ لَا نَصْطَلِحَنَّ , قَالَا: قَتَلَةُ عُثْمَانَ , فَإِنَّ هَذَا إِنْ تُرِكَ , كَانَ تَرْكًا لِلْقُرْآنِ , فَقَالَ: قَتَلْتُمَا قَتَلَةَ عُثْمَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ , وَأَنْتُمْ قَبْلَ قَتْلِهِمْ أَقْرَبُ مِنْكُمْ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ مِنْكُمُ الْيَوْمَ , قَتَلْتُمْ سِتَّمِائَةِ رَجُلٍ , فَغَضِبَ لَهُمْ سِتَّةُ آلَافٍ , فَاعْتَزَلُوكُمْ وَخَرَجُوا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ , وَطَلَبْتُمْ حُرْقُوصَ بْنَ زُهَيْرٍ , فَمَنَعَهُ سِتَّةُ آلَافٍ , فَإِنْ تَرَكْتُمُوهُمْ , وَقَعْتُمْ فِيمَا تَقُولُونَ , وَإِنْ قَاتَلْتُمُوهُمْ فَأُدِيلُوا عَلَيْكُمْ , فَالَّذِي حَذِرْتُمْ وَفَرِقْتُمْ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ أَعْظَمُ مِمَّا أَرَاكُمْ تَدْفَعُونَ وَتَجْمَعُونَ مِنْهُ , يَعْنِي أَنَّ الَّذِي تُرِيدُونَ مِنْ قَتْلِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ مَصْلَحَةٌ , وَلَكِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْهَا , وَكَمَا أَنَّكُمْ عَجَزْتُمْ عَنِ الْأَخْذِ بِثَأرِ عُثْمَانَ مِنْ حُرْقُوصِ بْنِ زُهَيْرٍ , لِقِيَامِ سِتَّةِ آلَافٍ فِي مَنْعِهِ مِمَّنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ , فَعَلِيٌّ أَعْذَرُ فِي تَرْكِهِ الْآنَ قَتْلَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ , وَإِنَّمَا أَخَّرَ قَتْلَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ إِلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُمْ بَعْدَ هَذَا , فَإِنَّ الْكَلِمَةَ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ مُخْتَلِفَةٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ خَلْقًا مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ قَدْ أَجْمَعُوا لِحَرْبِهِمْ بِسَبَبِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي وَقَعَ , فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟ , قَالَ: أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي وَقَعَ دَوَاؤُهُ التَّسْكِينُ , فَإِذَا سَكَنَ اخْتُلِجُوا , فَإِنْ أَنْتُمْ بَايَعْتُمُونَا , فَعَلَامَةُ خَيْرٍ , وَتَبَاشِيرُ رَحْمَةٍ , وَدَرَكٌ بِثَأرٍ , وَإِنْ أَنْتُمْ أَبَيْتُمْ إِلَّا مُكَابَرَةَ هَذَا الْأَمْرِ وَائْتِنَافَهُ , كَانَتْ عَلَامَةَ شَرٍّ , وَذَهَابَ هَذَا الْمُلْكِ , فَآثِرُوا الْعَافِيَةَ تُرْزَقُوهَا , وَكُونُوا مَفَاتِيحَ خَيْرٍ كَمَا كُنْتُمْ أَوَّلَ , وَلَا تُعَرِّضُونَا لِلْبَلَاءِ , فَتَعَرَّضُوا لَهُ , فَيَصْرَعَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ , وَايْمُ اللهِ , إِنِّي لَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ , وَإِنِّي لَخَائِفٌ أَنْ لَا يُتِمَّ حَتَّى يَأخُذَ اللهُ حَاجَتَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي قَلَّ مَتَاعُهَا , وَنَزَلَ بِهَا مَا نَزَلَ , فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ , وَلَيْسَ كَقَتْلِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ , وَلَا النَّفَرِ الرَّجُلَ , وَلَا الْقَبِيلَةِ الْقَبِيلَةَ , فَقَالُوا: قَدْ أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ , فَارْجِعْ , فَإِنْ قَدِمَ عَلِيٌّ وَهُوَ عَلَى مِثْلِ رَأيِكَ صَلُحَ الْأَمْرُ , قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ , فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ , وَأَشْرَفَ الْقَوْمُ عَلَى الصُّلْحِ , كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ كَرِهَهُ , وَرَضِيَهُ مَنْ رَضِيَهُ , وَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ إِلَى عَلِيٍّ تُعْلِمُهُ أَنَّهَا إِنَّمَا جَاءَتْ لِلْإِصْلَاحِ , فَفَرِحَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. وَقَامَ عَلِيٌّ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَذَكَرَ الْجَاهِلِيَّةَ وَشَقَاءَهَا , وَذَكَرَ الْإِسْلَامَ وَسَعَادَةَ أَهْلِهِ بِالْأُلْفَةِ وَالْجَمَاعَةِ , وَأَنَّ اللهَ جَمَعَهُمْ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْخَلِيفَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ , ثُمَّ بَعْدَهُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , ثُمَّ عَلَى عُثْمَانَ , ثُمَّ حَدَثَ هَذَا الْحَدَثُ الَّذِي جَرَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَقْوَامٌ طَلَبُوا هَذِهِ الدُّنْيَا , وَحَسَدُوا مَنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا , وَعَلَى الْفَضِيلَةِ الَّتِي مَنَّ بِهَا , وَأَرَادُوا رَدَّ الْإِسْلَامِ وَالْأَشْيَاءِ عَلَى أَدْبَارِهَا , وَاللهُ بَالِغُ أَمْرِهِ , ثُمَّ قَالَ: أَلَا إِنِّي مُرْتَحِلٌ غَدًا فَارْتَحِلُوا , وَلَا يَرْتَحِلْ مَعِي أَحَدٌ أَعَانَ عَلَى عُثْمَانَ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ. فَلَمَّا قَالَ هَذَا , اجْتَمَعَ مِنْ رُءُوسِهِمْ جَمَاعَةٌ ; كَالْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ , وَشُرَيْحِ بْنِ أَوْفَى وَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَبَأٍ , الْمَعْرُوفِ بِابْنِ السَّوْدَاءِ , وَسَالِمِ بْنِ ثَعْلَبَةَ , وَعِلْبَاءَ بْنِ الْهَيْثَمِ , وَغَيْرِهِمْ فِي أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ , وَلَيْسَ فِيهِمْ صَحَابِيٌّ وَللهِ الْحَمْدُ , فَقَالُوا: مَا هَذَا الرَّأيُ؟ , وَعَلِيٌّ وَاللهِ أَبْصَرُ بِكِتَابِ اللهِ , وَهُوَ مِمَّنْ يَطْلُبُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ , وَأَقْرَبُ إِلَى الْعَمَلِ بِذَلِكَ , وَقَدْ قَالَ مَا سَمِعْتُمْ , غَدًا يُجْمِعُ عَلَيْكُمُ النَّاسَ , وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ أَنْتُمْ , فَكَيْفَ بِكُمْ وَعَدَدُكُمْ قَلِيلٌ فِي كَثْرَتِهِمْ؟. فَقَالَ الْأَشْتَرُ: قَدْ عَرَفْنَا رَأيَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ فِينَا , وَأَمَّا رَأيُ عَلِيٍّ فَلَمْ نَعْرِفُهُ إِلَى الْيَوْمِ , فَإِنْ كَانَ قَدِ اصْطَلَحَ مَعَهُمْ , فَإِنَّمَا اصْطَلَحُوا عَلَى دِمَائِنَا , فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا , أَلْحَقْنَا عَلِيًّا بِعُثْمَانَ , فَرَضِيَ الْقَوْمُ مِنَّا بِالسُّكُوتِ. فَقَالَ ابْنُ السَّوْدَاءِ: بِئْسَ مَا رَأَيْتَ , لَوْ قَتَلْنَاهُ قُتِلْنَا , فَإِنَّا يَا مَعْشَرَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ فِي أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ , وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَأَصْحَابُهُمَا فِي خَمْسَةِ آلَافٍ , وَلَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهِمْ , وَهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُونَكُمْ , فَقَالَ عِلْبَاءُ بْنُ الْهَيْثَمِ: دَعُوهُمْ وَارْجِعُوا بِنَا حَتَّى نَتَعَلَّقَ بِبَعْضِ الْبِلَادِ فَنَمْتَنِعَ بِهَا , فَقَالَ ابْنُ السَّوْدَاءِ: بِئْسَ مَا قُلْتَ , إِذًا وَاللهِ كَانَ يَتَخَطَّفُكُمُ النَّاسُ , ثُمَّ قَالَ ابْنُ السَّوْدَاءِ قَبَّحَهُ اللهُ: يَا قَوْمِ , إِنَّ عِزَّكُمْ فِي خُلْطَةِ النَّاسِ , فَإِذَا الْتَقَى النَّاسُ , فَأَنْشِبُوا الْقِتَالَ , وَلَا تُفَرِّغُوهُمْ لِلنَّظَرِ , فَمَنْ أَنْتُمْ مَعَهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَمْتَنِعَ , وَيَشْغَلُ اللهُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَمَنْ مَعَهُمَا عَمَّا تَكْرَهُونَ. فَأَبْصَرُوا الرَّأيَ وَتَفَرَّقُوا عَلَيْهِ , وَأَصْبَحَ عَلِيٌّ مُرْتَحِلًا , وَمَرَّ بِعَبْدِ الْقَيْسِ , فَسَارُوا مَعَهُ حَتَّى نَزَلُوا بِالزَّاوِيَةِ , وَسَارَ مِنْهَا يُرِيدُ الْبَصْرَةَ , وَسَارَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا لِلِقَائِهِ , فَاجْتَمَعُوا عِنْدَ قَصْرِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ , وَنَزَلَ النَّاسُ كُلٌّ فِي نَاحِيَةٍ , وَقَدْ سَبَقَ عَلِيٌّ جَيْشَهُ , وَهُمْ يَتَلَاحَقُونَ بِهِ , فَمَكَثُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالرُّسُلُ بَيْنَهُمْ فَكَانَ ذَلِكَ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ , وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ بِانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ , فَقَالَا: إِنَّ عَلِيًّا قَدْ أَشَارَ بِتَسْكِينِ هَذَا الْأَمْرِ , وَقَدْ بَعَثْنَا إِلَيْهِ بِالْمُصَالَحَةِ عَلَى ذَلِكَ , وَقَامَ عَلِيٌّ فِي النَّاسِ خَطِيبًا , فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ , أَمْسِكُوا عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَيْدِيَكُمْ وَأَلْسِنَتَكُمْ , وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَسْبِقُونَا , فَإِنَّ الْمَخْصُومَ غَدًا مَنْ خُصِمَ الْيَوْمَ, ثُمَّ بَعَثَ عَلِيٌّ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ عَلَى مَا فَارَقْتُمْ عَلَيْهِ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو , فَكُفُّوا حَتَّى نَنْزِلَ فَنَنْظُرَ فِي هَذَا الْأَمْرِ , فَأَرْسَلَا إِلَيْهِ فِي جَوَابِ رِسَالَتِهِ: إِنَّا عَلَى مَا فَارَقْنَا عَلَيْهِ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو مِنَ الصُّلْحِ بَيْنَ النَّاسِ , فَاطْمَأَنَّتِ النُّفُوسُ وَسَكَنَتْ , وَاجْتَمَعَ كُلُّ فَرِيقٍ بِأَصْحَابِهِ مِنَ الْجَيْشَيْنِ , فَلَمَّا أَمْسَوْا بَعَثَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ إِلَيْهِمْ , وَبَعَثُوا إِلَيْهِ مُحَمَّدَ بْنَ طَلْحَةَ السَّجَّادَ , وَبَاتَ النَّاسُ بِخَيْرِ لَيْلَةٍ , وَبَاتَ قَتَلَةُ عُثْمَانَ بِشَرِّ لَيْلَةٍ وَبَاتُوا يَتَشَاوَرُونَ , وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يُثِيرُوا الْحَرْبَ مِنَ الْغَلَسِ , فَنَهَضُوا مِنْ قَبْلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ , وَهُمْ قَرِيبٌ مَنْ أَلْفَيْ رَجُلٍ , فَانْصَرَفَ كُلُّ فَرِيقٍ إِلَى قَرَابَاتِهِمْ , فَهَجَمُوا عَلَيْهِمْ بِالسُّيُوفِ , فَثَارَ كُلُّ طَائِفَةٍ إِلَى قَوْمِهِمْ لِيَمْنَعُوهُمْ , وَقَامَ النَّاسُ مِنْ مَنَامِهِمْ إِلَى السِّلَاحِ , فَقَالُوا: مَا هَذَا؟ , قَالُوا: طَرَقَنَا أَهْلُ الْكُوفَةِ لَيْلًا , وَبَيَّتُونَا وَغَدَرُوا بِنَا , وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا عَنْ مَلَأٍ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ , فَبَلَغَ الْأَمْرُ عَلِيًّا , فَقَالَ: مَا لِلنَّاسِ؟ , فَقَالُوا بَيَّتَنَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ , فَثَارَ كُلُّ فَرِيقٍ إِلَى سِلَاحِهِمْ , وَلَبِسُوا اللَّأمَةَ , وَرَكِبُوا الْخُيُولَ , وَلَا يَشْعُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَا وَقَعَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا , فَنَشِبَتِ الْحَرْبُ , وَتَوَاقَفَ الْفَرِيقَانِ , وَقَدِ اجْتَمَعَ مَعَ عَلِيٍّ عِشْرُونَ أَلْفًا , وَالْتَفَّ عَلَى عَائِشَةَ وَمَنْ مَعَهَا نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا , وَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ , وَتَبَارَزَ الْفُرْسَانُ , وَجَالَتِ الشُّجْعَانُ , فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَالسَّبَئِيَّةُ أَصْحَابُ ابْنُ السَّوْدَاءِ قَبَّحَهُ اللهُ لَا يَفْتَرُونَ عَنِ الْقَتْلِ , وَمُنَادِي عَلِيٍّ يُنَادِي: أَلَا كُفُّوا! , أَلَا كُفُّوا! , فَلَا يَسْمَعُ أَحَدٌ , وَجَاءَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ قَاضِي الْبَصْرَةِ , فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ , أَدْرِكِي النَّاسَ , لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِكِ بَيْنَ النَّاسِ , فَجَلَسَتْ فِي هَوْدَجِهَا فَوْقَ بَعِيرِهَا , وَسَتَرُوا الْهَوْدَجَ بِالدُّرُوعِ , وَجَاءَتْ فَوَقَفَتْ بِحَيْثُ تَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ فِي مَعْرَكَتِهِمْ , فَتَصَاوَلُوا وَتَجَاوَلُوا , وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ تَبَارَزَ: الزُّبَيْرُ وَعَمَّارٌ , فَجَعَلَ عَمَّارٌ يَنْخُزُهُ بِالرُّمْحِ , وَالزُّبَيْرُ كَافٌّ عَنْهُ وَيَقُولُ لَهُ: أَتَقْتُلُنِي يَا أَبَا الْيَقْظَانِ؟ , فَيَقُولُ: لَا يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ , وَإِنَّمَا تَرَكَهُ الزُّبَيْرُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» وَإِلَّا فَالزُّبَيْرُ أَقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْهُ عَلَيْهِ , فَلِهَذَا كَفَّ عَنْهُ , وَقَدْ كَانَ مِنْ سُنَّتِهِمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَنَّهُ لَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ , وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ , وَقَدْ قُتِلَ مَعَ هَذَا بَشَرٌ كَثِيرٌ جِدًّا , وَقَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ , عَنِ الْحَسَنِ , عَنْ أَبِي بَكْرَةَ: لَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَالُ يَوْمَ الْجَمَلِ , وَرَأَى عَلِيٌّ الرُّءُوسَ تَنْدُرُ , أَخَذَ عَلِيٌّ ابْنَهُ الْحَسَنَ , فَضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ , ثُمَّ قَالَ: إِنَّا للهِ يَا حَسَنُ! , أَيُّ خَيْرٍ يُرْجَى بَعْدَ هَذَا! لَيْتَ أَبَاكَ مَاتَ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً , فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَهْ , قَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا , قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي لَمْ أَرَ أَنَّ الْأَمْرَ يَبْلُغُ هَذَا , فَلَمَّا رَكِبَ الْجَيْشَانِ , وَتَرَاءَى الْجَمْعَانِ , طَلَبَ عَلِيٌّ الزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ لِيُكَلِّمَهُمَا , فَاجْتَمَعُوا حَتَّى الْتَفَّتْ أَعْنَاقُ خُيُولِهِمْ , فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَتَذْكُرُ يَوْمَ «مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَنِي غَنْمٍ , فَنَظَرَ إِلَيَّ وَضَحِكَ وَضَحِكْتُ إِلَيْهِ , فَقُلْتَ: لَا يَدَعُ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ زَهْوَهُ , فَقَالَ لَكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّهُ لَيْسَ بِمَزْهُوٍّ , لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ» " فَقَالَ الزُّبَيْرُ: اللهُمَّ نَعَمْ , وَلَوْ ذَكَرْتُ مَا سِرْتُ مَسِيرِي هَذَا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الزُّبَيْرَ لَمَّا رَجَعَ يَوْمَ الْجَمَلِ , سَارَ حَتَّى نَزَلَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ: وَادِي السِّبَاعِ , فَاتَّبَعَهُ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ , فَجَاءَهُ وَهُوَ نَائِمٌ , فَقَتَلَهُ غِيلَةً. وَأَمَّا طَلْحَةُ , فَجَاءَهُ فِي الْمَعْرَكَةِ سَهْمٌ غَرْبٌ (طائش) , فَانْتَظَمَ رِجْلَهُ مَعَ فَرَسِهِ فَجَمَحَتْ بِهِ الْفَرَسُ , فَجَعَلَ يَقُولُ: إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ , إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ , فَاتَّبَعَهُ مَوْلًى لَهُ فَأَمْسَكَهَا , فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ , اعْدِلْ بِي إِلَى الْبُيُوتِ , وَامْتَلَأَ خُفُّهُ دَمًا , فَقَالَ لِغُلَامِهِ: انْزِعْهُ وَارْدُفْنِي , وَذَلِكَ أَنَّهُ نَزَفَهُ الدَّمُ وَضَعُفَ , فَرَكِبَ الْغُلَامُ وَرَاءَهُ , وَجَاءَ بِهِ إِلَى بَيْتٍ فِي الْبَصْرَةِ , فَمَاتَ فِيهِ - رضي الله عنه -. وَتَقَدَّمَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها - فِي هَوْدَجِهَا , وَنَاوَلَتْ كَعْبَ بْنَ سُورٍ قَاضِي الْبَصْرَةِ مُصْحَفًا وَقَالَتِ: ادْعُهُمْ إِلَيْهِ , وَذَلِكَ حِينَ اشْتَدَّ الْحَرْبُ , وَحَمِيَ الْقِتَالُ , وَرَجَعَ الزُّبَيْرُ , وَقُتِلَ طَلْحَةُ , فَلَمَّا تَقَدَّمَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ بِالْمُصْحَفِ يَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهِ , اسْتَقْبَلَهُ مُقَدَّمَةُ جَيْشِ الْكُوفِيِّينَ , وَهُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَبَأٍ ابْنُ السَّوْدَاءِ وَأَتْبَاعُهُ , وَهُمْ بَيْنَ يَدَيِ الْجَيْشِ يَقْتُلُونَ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ , لَا يَتَوَقَّفُونَ فِي أَحَدٍ , فَلَمَّا رَأَوْا كَعْبَ بْنَ سُورٍ رَافِعًا الْمُصْحَفَ , رَشَقُوهُ بِنِبَالِهِمْ رَشْقَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَقَتَلُوهُ , وَوَصَلَتِ النِّبَالُ إِلَى هَوْدَجِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ , فَجَعَلَتْ تُنَادَى: اللهَ اللهَ يَا بَنِيَّ , اذْكُرُوا يَوْمَ الْحِسَابِ , وَرَفَعَتْ يَدَيْهَا تَدْعُو عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ , فَضَجَّ النَّاسُ مَعَهَا بِالدُّعَاءِ , حَتَّى وَصَلَتِ الضَّجَّةُ إِلَى عَلِيٍّ , فَقَالَ: مَا هَذَا؟ , فَقَالُوا: أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تَدْعُو عَلَى قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَأَشْيَاعِهِمْ , فَقَالَ: اللهُمَّ الْعَنْ قَتَلَةَ عُثْمَانَ , وَجَعَلَ أُولَئِكَ النَّفَرُ لَا يُقْلِعُونَ عَنْ رَشْقِ هَوْدَجِهَا بِالنِّبَالِ , حَتَّى بَقِيَ مِثْلَ الْقُنْفُذِ , وَجَعَلَتْ تُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى مَنْعِهِمْ وَكَفِّهِمْ , فَحَمَلَتْ مُضَرُ حَمْلَةَ الْحَفِيظَةِ , فَطَرَدُوهُمْ حَتَّى وَصَلَتِ الْحَمْلَةُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ , فَقَالَ لِابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ: وَيْحَكَ تَقَدَّمْ بِالرَّايَةِ , فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَأَخَذَهَا عَلِيٌّ مِنْ يَدِهِ فَتَقَدَّمَ بِهَا , وَجَعَلَتِ الْحَرْبُ تَأخُذُ وَتُعْطِي , فَتَارَةً لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ , وَتَارَةً لِأَهْلِ الْكُوفَةِ , حَتَّى قُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ , وَجَمٌّ غَفِيرٌ , وَلَمْ تُرَ وَقْعَةٌ أَكْثَرُ مِنْ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْوَقْعَةِ , وَجَعَلَتْ عَائِشَةُ تُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ , وَيُقَالُ: إِنَّهُ قُطِعَتْ يَدُ سَبْعِينَ رَجُلًا وَهِيَ آخِذَةٌ بِخِطَامِ الْجَمَلِ , ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَضَرَبَ الْجَمَلَ عَلَى قَوَائِمِهِ , فَعَقَرَهُ وَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ , وَيُقَالُ: إِنَّ الَّذِي أَشَارَ بِعَقْرِهِ عَلِيٌّ , وَقِيلَ: الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو , لِئَلَّا تُصَابُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ , فَإِنَّهَا صَارَتْ غَرَضًا لِلرُّمَاةِ , وَمَنْ يُمْسِكُ بِالزِّمَامِ بُرْجَاسًا (هدفا) لِلرِّمَاحِ , وَلِيَنْفَصِلَ هَذَا الْمَوْقِفُ الَّذِي قَدْ تَفَانَى فِيهِ النَّاسُ , وَلَمَّا سَقَطَ الْجَمَلُ إِلَى الْأَرْضِ انْهَزَمَ مَنْ حَوْلَهُ , وَحُمِلَ هَوْدَجُ عَائِشَةَ , وَإِنَّهُ لَكَالْقُنْفُذِ مِنْ كَثْرَةِ النُّشَّابِ , وَنَادَى مُنَادِي عَلِيٍّ فِي النَّاسِ: إِنَّهُ لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ , وَلَا يَذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ , وَلَا يَدْخُلُوا الدُّورَ , وَأَمَرَ عَلِيٌّ نَفَرًا أَنْ يَحْمِلُوا الْهَوْدَجَ مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى , وَأَمَرَ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَمَّارًا أَنْ يَضْرِبَا عَلَيْهَا قُبَّةً , وَجَاءَ إِلَيْهَا أَخُوهَا مُحَمَّدٌ فَسَأَلَهَا: هَلْ وَصَلَ إِلَيْكِ شَيْءٌ مِنَ الْجِرَاحِ؟ , فَقَالَتْ: وَمَا أَنْتَ وَذَاكَ يَا ابْنَ الْخَثْعَمِيَّةِ , وَسَلَّمَ عَلَيْهَا عَمَّارٌ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتِ يَا أُمَّ؟ , فَقَالَتْ: لَسْتُ لَكَ بِأُمٍّ , قَالَ: بَلَى وَإِنْ كَرِهْتِ , وَجَاءَ إِلَيْهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مُسَلِّمًا فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتِ يَا أُمَّهْ؟ , قَالَتْ: بِخَيْرٍ , فَقَالَ: يَغْفِرُ اللهُ لَكِ , وَجَاءَ وُجُوهُ النَّاسِ إِلَيْهَا مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهَا. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ دَخَلَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ الْبَصْرَةَ , وَمَعَهَا أَخُوهَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ , فَنَزَلَتْ فِي دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَلَفٍ الْخُزَاعِيِّ - وَهِيَ أَعْظَمُ دَارٍ بِالْبَصْرَةِ - عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ , وَهِيَ أُمُّ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَلَفٍ , وَتَسَلَّلَ الْجَرْحَى مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى فَدَخَلُوا الْبَصْرَةَ , وَأَقَامَ عَلِيٌّ بِظَاهِرِ الْبَصْرَةِ ثَلَاثًا. وَكَانَ مَجْمُوعُ مَنْ قُتِلِ يَوْمَ الْجَمَلِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَشَرَةَ آلَافٍ , خَمْسَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ , وَخَمْسَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ , رَحِمَهُمُ اللهُ , وَرَضِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ. وَقَدْ سَأَلَتْ عَائِشَةُ عَمَّنْ قُتِلَ مَعَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ , وَمَنْ قُتِلَ مِنْ عَسْكَرِ عَلِيٍّ , فَجَعَلَتْ كُلَّمَا ذُكِرَ لَهَا وَاحِدٌ تَرَحَّمَتْ عَلَيْهِ , وَدَعَتْ لَهُ. وَلَمَّا أَرَادَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ الْخُرُوجَ مِنَ الْبَصْرَةِ , بَعَثَ إِلَيْهَا عَلِيٌّ بِكُلِّ مَا يَنْبَغِي مِنْ مَرْكَبٍ وَزَادٍ وَمَتَاعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَأَذِنَ لِمَنْ نَجَا مِمَّنْ جَاءَ فِي جَيْشِهَا أَنْ يَرْجِعَ مَعَهَا , إِلَّا أَنْ يُحِبَّ الْمَقَامَ , وَاخْتَارَ لَهَا أَرْبَعِينَ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ الْمَعْرُوفَاتِ , وَسَيَّرَ مَعَهَا أَخَاهَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ , فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي ارْتَحَلَتْ فِيهِ , جَاءَ عَلِيٌّ فَوَقَفَ عَلَى الْبَابِ , وَحَضَرَ النَّاسُ مَعَهُ , وَخَرَجَتْ مِنَ الدَّارِ فِي الْهَوْدَجِ , فَوَدَّعَتِ النَّاسَ , وَدَعَتْ لَهُمْ , وَقَالَتْ: يَا بَنِيَّ , لَا يَعْتِبْ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ , إِنَّهُ وَاللهِ مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَلِيٍّ فِي الْقِدَمِ إِلَّا مَا يَكُونُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأَحْمَائِهَا وَإِنَّهُ عَلَى مَعْتَبَتِي لَمِنَ الْأَخْيَارِ , فَقَالَ عَلِيٌّ: صَدَقَتْ , وَاللهِ مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا إِلَّا ذَاكَ , وَإِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , وَسَارَ عَلِيٌّ مَعَهَا مُوَدِّعًا وَمُشَيِّعًا أَمْيَالًا , وَسَرَّحَ بَنِيهِ مَعَهَا بَقِيَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ , وَقَصَدَتْ فِي مَسِيرِهَا ذَلِكَ إِلَى مَكَّةَ , فَأَقَامَتْ بِهَا إِلَى أَنْ حَجَّتْ عَامَهَا ذَلِكَ , ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ - رضي الله عنها - تحية طيبة وبعد
هَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ عَنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأنِ , وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنَ الشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلَقَةِ عَلَى الصَّحَابَةِ , وَالْأَخْبَارِ الْمَوْضُوعَةِ الَّتِي يَنْقُلُونَهَا بِمَا فِيهَا , وَإِذَا دُعُوا إِلَى الْحَقِّ الْوَاضِحِ أَعْرَضُوا عَنْهُ , وَقَالُوا: لَنَا أَخْبَارُنَا وَلَكُمْ أَخْبَارُكُمْ , فَنَقُولُ لَهُمْ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: ٥٥]. أ. هـ