للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(د) , وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " تَدُورُ تَزُولُ رَحَى (١) الْإِسْلَامِ (٢) لِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ , أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ , أَوْ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ , فَإِنْ يَهْلَكُوا فَسَبِيلُ مَنْ هَلَكَ (٣) وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ , يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَامًا " , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ , أَمِمَّا بَقِيَ؟ , أَوْ مِمَّا مَضَى (٤)؟ , قَالَ: " مِمَّا مَضَى (٥) " (٦)


(١) الرحى: الأداة التي يُطحن بها، وهي حَجَران مُستديران يُوضع أحدهما على الآخر , ويَدور الأعلى على قطب.
(٢) قَالَ الْعَلَّامَة الْأَرْدَبِيلِيُّ فِي الْأَزْهَار: قَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْمُرَاد بِدَوَرَانِ رَحَى الْإِسْلَامِ اِسْتِمْرَارُ أَمْرِ النُّبُوَّةِ وَالْخِلَافَةِ , وَاسْتِقَامَةُ أَمْرِ الْوُلَاةِ , وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ مِنْ غَيْر فُتُورٍ وَلَا فُطُور , إِلَى سَنَة خَمْس وَثَلَاثِينَ , أَوْ سِتّ وَثَلَاثِينَ , أَوْ سَبْع وَثَلَاثِينَ مِنْ الْهِجْرَة , بِدَلِيلِ قَوْله - صلى الله عليه وسلم - فِي آخِرِ الْحَدِيث مِمَّا مَضَى , وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يَمْتَدُّ قِيَامُ أَمْرِهِ عَلَى سُنَنِ الِاسْتِقَامَةِ وَالْبُعْدِ مِنْ إِحْدَاثَاتِ الظَّلَمَةِ إِلَى تَقَضِّي هَذِهِ الْمُدَّةِ الَّتِي هِيَ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ. اِنْتَهَى. عون المعبود (ج٩ص٢٩٤)
(٣) اِعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا اِخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِدَوَرَانِ رَحَى الْإِسْلَامِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ , اِخْتَلَفُوا فِي بَيَانِ مَعْنَى هَذَا الْكَلَام وَتَفْسِيرِهِ أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ، فَتَفْسِيرُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى قَوْل الْأَكْثَرِينَ هَكَذَا: فَقَوْله: (فَإِنْ يَهْلِكُوا) يَعْنِي بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ , وَالْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَام , وَبِالْمَعَاصِي , وَالْمَظَالِمِ , وَتَرْكِ الْحُدُوِد وَإِقَامَتِهَا.
وَقَوْله: (فَسَبِيلُ مَنْ هَلَكَ) أَيْ: فَسَبِيلُهُمْ فِي الْهَلَاكِ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ وَالْوَهْنِ فِي الدِّينِ سَبِيلُ مَنْ هَلَكَ مِنْ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ , وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ فِي الْهَلَاكِ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ , وَالْوَهْن فِي الدِّين.
وَقَوْله: (وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينهمْ) أَيْ: لِعَدَمِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَالْوَهْنِ , يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَامًا , وَلَيْسَ الْهَلَاكُ فِيهِ عَلَى حَقِيقَته , بَلْ سَمَّى أَسْبَابَ الْهَلَاكِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ هَلَاكًا.
فَإِنْ قُلْتَ: فِي هَذَا الْكَلَامِ مَوْعِدَانِ: الْأَوَّل: أَنَّهُمْ إِنْ يَهْلِكُوا فَسَبِيلُهُمْ سَبِيلُ مَنْ هَلَكَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ إِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ , يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَامًا، وَهَذَانِ الْمَوْعِدَانِ لَا يُوجَدَانِ مَعًا , بَلْ إِنْ وُجِدَ الْأَوَّل , لَا يُوجَدُ الثَّانِي، وَإِنْ وُجِدَ الثَّانِي , لَا يُوجَدُ الْأَوَّل، فَأَيُّ مِنْ هَذَيْنِ الْمَوْعِدَيْنِ وُجِدَ وَوَقَعَ؟.
قُلْت: قَالَ الْقَارِي فِي الْمِرْقَاة: قَدْ وَقَعَ الْمَحْذُورُ فِي الْمَوْعِدِ الْأَوَّل , وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَى الْآن. اِنْتَهَى.
قُلْت: لَا شَكَّ فِي وُقُوعِهِ , فَقَدْ ظَهَرَ بَعْدَ اِنْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مَا ظَهَرَ , وَجَرَى مَا جَرَى، فَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ فِي الْمَوْعِدِ الْأَوَّل , اِرْتَفَعَ الْمَوْعِدُ الثَّانِي كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّل.
فَإِنْ قُلْت: قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالدِّينِ هُنَا: الْمُلْك , قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهَذَا مُلْكَ بَنِي أُمَيَّة , وَانْتِقَالَهُ عَنْهُمْ إِلَى بَنِي الْعَبَّاس , وَكَانَ مَا بَيْنَ اِسْتِقْرَارِ الْمُلْكِ لِبَنِي أُمَيَّة إِلَى أَنْ ظَهَرَتْ دُعَاة الدَّوْلَة الْعَبَّاسِيَّة بِخُرَاسَان , وَضَعُفَ أَمْرُ بَنِي أُمَيَّة , وَدَخَلَ الْوَهْنُ فِيهِ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ سَنَة، فَعَلَى قَوْلِ الْخَطَّابِيِّ هَذَا , يَظْهَر أَنَّ الْمَوْعِد الثَّانِي قَدْ وَقَعَ.
قُلْت: قَوْل الْخَطَّابِيِّ هَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا , بَلْ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَلِذَلِكَ تُعُقِّبَ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوه , قَالَ اِبْن الْأَثِير - بَعْد نَقْلِ قَوْلِهِ هَذَا التَّأوِيلَ كَمَا تَرَاهُ -: إِنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا لَمْ تَكُنْ سَبْعِينَ سَنَة , وَلَا كَانَ الدِّينُ فِيهَا قَائِمًا.
وَقَالَ الْأَرْدَبِيلِيُّ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِه: وَضَعَّفُوهُ بِأَنَّ مُلْكَ بَنِي أُمَيَّةَ كَانَ أَلْفَ شَهْرٍ وَهُوَ ثَلَاث وَثَمَانُونَ سَنَة , وَأَرْبَعَة أَشْهُر.
وَقَالَ التُّورْبَشْتِيُّ بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِه: يَرْحَمُ الله أَبَا سُلَيْمَان , أَيْ: الْخَطَّابِيّ , فَإِنَّهُ لَوْ تَأَمَّلَ الْحَدِيثَ كُلَّ التَّأَمُّل , وَبَنَى التَّأوِيلَ عَلَى سِيَاقِه , لَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ مُلْك بَنِي أُمَيَّة دُون غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَّة , بَلْ أَرَادَ بِهِ اِسْتِقَامَةَ أَمْرِ الْأُمَّةِ فِي طَاعَةِ الْوُلَاة , وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَام، وَجَعَلَ الْمَبْدَأَ فِيهِ أَوَّلُ زَمَانِ الْهِجْرَة، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ يَلْبَثُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ , أَوْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ , أَوْ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ , ثُمَّ يَشُقُّونَ عَصَا الْخِلَافِ , فَتَتَفَرَّقُ كَلِمَتُهمْ، فَإِنْ هَلَكُوا , فَسَبِيلُهُمْ سَبِيلُ مَنْ قَدْ هَلَكَ قَبْلَهُمْ , وَإِنْ عَادَ أَمْرُهُمْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ إِيثَارِ الطَّاعَةِ , وَنُصْرَةِ الْحَقِّ , يَتِمّ لَهُمْ ذَلِكَ إِلَى تَمَامِ السَّبْعِينَ , هَذَا مُقْتَضَى اللَّفْظ. وَلَوْ اِقْتَضَى اللَّفْظُ أَيْضًا غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَقِمْ لَهُمْ ذَلِكَ الْقَوْل , فَإِنَّ الْمُلْكَ فِي أَيَّاِم بَعْض الْعَبَّاسِيَّة لَمْ يَكُنْ أَقَلَّ اِسْتِقَامَةً مِنْهُ فِي أَيَّام الْمَرْوَانِيَّة. عون المعبود (٩/ ٢٩٤)
(٤) يُرِيد أَنَّ السَّبْعِينَ تَتِمُّ لَهُمْ مُسْتَأنَفَةً بَعْد خَمْس وَثَلَاثِينَ؟ , أَمْ تَدْخُلُ الْأَعْوَامُ الْمَذْكُورَةُ فِي جُمْلَتهَا؟.عون المعبود (ج٩ص٢٩٤)
(٥) أَيْ: يَقُومُ لَهُمْ أَمْرُ دِينِهِمْ إِلَى تَمَامِ سَبْعِينَ سَنَةً مِنْ أَوَّلِ دَوْلَةِ الْإِسْلَام , لَا مِنْ اِنْقِضَاء خَمْس وَثَلَاثِينَ , أَوْ سِتّ وَثَلَاثِينَ , أَوْ سَبْع وَثَلَاثِينَ , إِلَى اِنْقِضَاء سَبْعِينَ. عون المعبود - (ج ٩ / ص ٢٩٤)
(٦) (د) ٤٢٥٤ , (حم) ٣٧٠٧ , انظر الصَّحِيحَة: ٩٧٦