[سبب نزول آيات العدل من سورة النساء]
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، والمصطفى من خلقه صلى الله عليه وعلى آله، ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: لربما تكون هذه بداية حلقة لأحاديث متكررة إن شاء الله طيلة إجازة الربيع هنا في جدة، وسيكون الدرس الآخر القادم إن شاء الله مساء السبت ليلة الأحد في مسجد الأمير متعب، ولربما تتواصل الحلقات إن شاء الله، ونرجو الله أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، وحلقاتنا سوف تتعرض لدروس من كتاب الله عز وجل، ذلك أن القرآن هو مصدر حياة البشرية، وأن القرآن كما أخبر الله عز وجل عنه: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:٨٩]، وأن الله عز وجل ما فرط فيه من شيء، ولذلك فسوف نختار إن شاء الله دروساً من كتاب الله، كل درس منها يهتم بجانب من جوانب حياة الناس الاجتماعية، وما أكثر الاعوجاج في دنيانا اليوم لدى كثير من الناس، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم وإخواننا المسلمين نتخلق بخلق القرآن الذي هو خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روي عن عائشة رضي الله عنها حينما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن).
أما الفصل الذي سوف أختاره لكم هذه الليلة فهي آيات في سورة النساء تقرر قواعد العدل في الأمة، وهذه القاعدة -قاعدة العدل- هي من أكبر الأمور وأهمها التي لا تستغني عنها الأمة، أمر مهم لا تستغني عنه أمة الإسلام، لاسيما في عصر الجور والظلم والطغيان التي سيطرت على عقول كثير من الناس، وهذه الآيات التي تتحدث عن العدل حتى مع الكافر ضد المسلم؛ لأن الآيات مضمونها رجل ينتسب إلى الإسلام فعل جريمة، فألصق الجريمة برجل يهودي، واستشهد قومه من المنسوبين إلى الإسلام فشهدوا ضد اليهودي، وكاد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقطع يد اليهودي، لولا أن الله عز وجل أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بصدق الخبر، وأن الجريمة لم يفعلها اليهودي وإنما فعلها رجل ينتسب للإسلام هو أبو طعيمة بشر بن أبيرق الذي تبين في الأخير أنه من المنافقين حسب سياق القصة، وأن إخوته وأبناء عمه الذين شهدوا معه زوراً وبهتاناً أيضاً هم من المنافقين.
القصة: رجل منافق يدعى بشر بن أبيرق أبو طعيمة سرق ذات يوم درعاً فأخفاه عند يهودي من اليهود في المدينة، ثم جاء الطلب إلى بيت المنافق، فأنكر وجود الدرع عنده، وألصق التهمة باليهودي، فجيء باليهودي وشهد عليه أبناء عم بشر بن أبيرق، فشهدوا أن بشراً لم يسرق، وأن الذي سرق هو اليهودي، بالرغم من أن السارق هو المنافق بشر بن أبيرق، وأن اليهودي كان بريئاً من السرقة، فعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على قطع يد اليهودي، فأنزل الله قرآناً يبرئ فيه اليهودي.
ومن هنا نعرف أيها الإخوة! كيف أن الإسلام يقر قواعد العدل حتى لمصلحة يهودي ضد مسلم؛ من أجل أن يفهم الناس حقيقة العدل، وأن العدل يجب أن يدخل في الحكم مهما كان هذا الحكم، حتى لو كان بين مسلم ويهودي كما يأتينا من قصص غير هذه القصة.
المهم أنزل الله عز وجل القرآن فبرأ اليهودي، وألصق التهمة بصاحبها المنافق، أما هذا المنافق نعوذ بالله فما زادته هذه القصة إلا بعداً عن الله، هرب من المدينة مرتداً عن الإسلام، ولجأ إلى مكة بسبب فضيحة القرآن له، وانضم إلى معسكر المشركين في مكة، ثم أراد الله عز وجل له سوء الخاتمة فنقب ذات يوم بيتاً من البيوت في مكة، فسقط عليه الجدار فمات مرتداً عن الإسلام نسأل الله العافية؛ فخسر الدنيا والآخرة.
هذا هو مصير الظالمين الذين يلصقون التهم بالأبرياء، تكون نهايتهم الردة عن الإسلام، والموت شر ميتة وهو يمارس اللصوصية، أقرأ عليكم الآيات، ثم نعود بعد ذلك إليها بشيء من التفصيل، ثم بعد ذلك نستطيع أن نفهم حقيقة العدل في الإسلام.
يقول الله عز وجل في سورة النساء: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّا} [النساء:١٠٥]، الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو موجه لنا أيضاً نحن؛ لأن كل شيء يوجه للرسول صلى الله عليه وسلم هو موجه لنا أيضاً، حتى نقر قواعد العدل في هذه الحياة.
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا * وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:١٠٥ - ١١٢].
ثم يقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا * لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء:١١٣ - ١١٥]، هذا الذي ارتد عن الإسلام: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:١١٥ - ١١٦].
هذا درس لا يجوز للمسلم أن يغفل عنه أو ينساه أبداً، والعجيب كما قلت لكم: أن هذه الآيات تدافع عن رجل يهودي، فأي دين يستطيع أن يدافع عن أعدائه أشد من هذا الدفاع؟! حتى لقد كان فيه اللوم العتاب للرسول صلى الله عليه وسلم من أجل رجل يهودي كاد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده حسب ما قامت عليه البينة الظاهرة، لولا أن الله عز وجل وجه القصة إلى مجراها الحقيقي بدل أن كانت في مجراها غير الحقيقي.
هذه هي القصة وهذا هو سبب نزولها، ونعود إلى الآيات بشيء من التفصيل لنعود بعد ذلك إلى قواعد العدل التي يجب أن تطبق في الأمة بأي حال من الأحوال.