[إيمان السحرة بالله تعالى]
الأمر الرابع: وهو ما أشرت إليه سابقاً: أن الإيمان ولو طال الأمد عليه وفقد مدة طويلة من الزمن لا بد أن يعود إذا جاء موعده! وكيف أن المؤمن ولو ألحد وغفل عن الله عز وجل كثيراً إذا رأى الآية التي تعرفه بالله عز وجل يرجع إلى الله عز وجل؛ لأن الفطرة الأصل أنها موجودة، وهي ما أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (كل مولود يولد على الفطرة)، وما أشار الله عز وجل إليها في الحديث القدسي: (خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم).
ولذلك يقول الله تعالى هنا: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} [طه:٧٠]، فقد ولدوا بعيدين عن الفطرة معزولين عزلاً كاملاً عن الفطرة، يعيشون على حياة السحر والشعوذة بعيدين عن الله عز وجل، لكن حينما رأوا آية واضحة من آيات الله عز وجل اعتبروا السجود هو العاصم الذي يعتصمون به من هذا الذنب العظيم الذي اقترفوه مدة طويلة من الزمن، فخروا ساجدين لله عز وجل، وما أدوا عبادة إلا هذه السجدة وهي سجدة فقط، ثم كانت نهايتهم الجنة، وكان مصيرهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
وعلى هذا نقول: إن باب التوبة مفتوح، ومهما ابتعد الإنسان عن ربه سبحانه وتعالى فإن عليه أن يفكر دائماً وأبداً في طريق العودة إلى الله عز وجل، ولا يستعظم ذنباً فعله، فإن الله عز وجل يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:٥٣ - ٥٥].
ومن هنا نقول: إن هؤلاء السحرة بالرغم مما فعلوه من الذنوب العظيمة، وآخرها الوقوف أمام آية من آيات الله عز وجل، والحلف بعزة فرعون وهو لا يستحق شيئاً من ذلك، ثم لما رأوا الآية من آيات الله عز وجل رجعوا إلى أنفسهم؛ لأنهم تجردوا عن الهوى، وعرفوا أن ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام إنما هو آية من عند الله، وليس بسحر، فخروا ساجدين لله عز وجل.
ثم كانت هذه هي الخاتمة، فالعبرة إذن بحسن الخاتمة، يقول عليه الصلاة والسلام: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، ولذلك فعلى المسلم دائماً وأبداً أن يسأل الله تعالى حسن الخاتمة، حتى لو كان في خير وفي عمل صالح يرضى به لنفسه ويطمئن إليه فلابد أن يسأل الله عز وجل حسن الخاتمة والثبات، ولذلك فإن الرسول -وهو الرسول عليه الصلاة والسلام- كان كثيراً ما يقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
فتقول له عائشة في ذلك: أتخاف على نفسك يا رسول الله؟! فيقول: يا عائشة! وما يؤمنني وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء).
فهؤلاء كفرة يحلفون بعزة فرعون، جاءوا معاندين لآية من آيات الله، يريدون أن يأتوا بالسحر ليطمسوا فيه معالم آية من آيات الله، وما كانوا يظنون أنها آية، واستغفلوا مدة من الزمن، واستذلوا واستعبدوا، لكن لما رأوا الحقيقة رجعوا إلى الطريق المستقيم، فخروا ساجدين لله عز وجل، ووقف فرعون مبهوراً! مائة ألف ساحر جميعاً ولدوا على السحر وعلى البعد عن الله وعلى عبادة فرعون، ثم يسجدون جميعاً سجدة واحدة لله عز وجل! هذا أمر عجيب! لكنه ليس عجيباً بالنسبة لأمر الله عز وجل.
إذاً: ما هو الموقف الذي سوف يسلكه مثل هذا الطاغوت؟! منطق الطواغيت والظلمة معروف حينما تعييهم الحجة ليس أمامهم إلا القوة؛ لأنهم يملكون القوة البشرية، ويملكون القوة المادية في هذه الحياة، ولربما يفقدها المؤمنون، فيلجئون إلى التهديد بهذه القوة، ولذلك أحضر الجلادين، وأحضر جذوع النخل، وأحضر الذين سوف يقطعون اليد اليمنى والرجل اليسرى من خلاف، وأحضر كل وسائل التعذيب أمام مائة ألف من البشر خروا ساجدين لله عز وجل.
وكان المنطق البدهي المجرد من الإيمان يقول: إن ساحراً أمضى حياته في السحر وفي عبادة غير الله عز وجل، وما دخل الإيمان إلا بسيطاً في لحظة واحدة قد يتأثر بسرعة، ويتراجع عن مبدئه حينما يرى وسائل التعذيب، كما نشاهد في دنيانا اليوم أن كثيراً من ضعاف الإيمان حينما يخوفون بغير الله عز وجل يخافون، ولكن الله عز وجل ربط على قلوب هؤلاء السحرة، وتحدوا فرعون وكل قوى التعذيب والبطش التي أحضرها لهم، وقالوا: نحن رأينا بأعيننا الحقيقة، آمنا عن اقتناع، افعل ما تشاء! ولو فعلت فماذا ستفعل؟! ستهلك هذا الجسد، لكنك لن تستطيع أن تتسلط على الروح، سوف تهلك هذه الدنيا، لكن لن تستطيع أن تصل بنا إلى الحياة الآخرة، افعل ما تشاء، لما قال: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:٧١]، أنا أم الله؟ أو أنا أم موسى؟! فكان الجواب شافياً: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه:٧٢] آيات رأيناها بأعيننا، آية جاءت من عند الله عصا تتحول إلى ثعبان عظيم يلتهم سحر مائة ألف من السحرة كنا نعده منذ سنوات طويلة، فتلتهم هذه الآية هذا السحر في لحظة واحدة، وتريد أن نرجع إليك بعد هذه الآية التي رأيناها! لن نؤثرك عليها، لن نقدم رأيك ولا تعذيبك على تعذيب الله عز وجل في الحياة الآخرة؛ لأننا لو أطعناك الآن وسلمنا في هذه اللحظة تعرضنا لعذاب عظيم: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود:١٠٧]، لكننا حينما نعصيك اليوم وتريد أن تذيقنا ما تذيقنا من عذاب الدنيا فإن ذلك لن يضيرنا؛ لأنه لحظة واحدة تفارق فيها الروح الجسد، وننتقل إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
هذا هو المنطق الصحيح الذي يجب أن يكون منطق كل مؤمن، ومنطق كل إنسان رأى الحقيقة بعينيه، وآمن بالله عز وجل حق الإيمان، فلا يكون من الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} [العنكبوت:١٠] أي: في الدنيا {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:١٠] نعوذ بالله! هؤلاء ضعاف الإيمان.
أما هؤلاء فقالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:٧٢] حلفوا بالله أنهم لن يغيروا رأيهم أبداً، ولن يرجعوا عن دينهم الذي اهتدوا إليه بعدما رأوا الآيات بعينهم، فحلفوا بعظمة الله عز وجل الذي فطرهم.
أي: خلقهم، ثم قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:٧٢]، الذي تريد أن تفعله فافعله، لك الأجسام لكنك لن تستطيع أن تتسلط على الأرواح؛ لأن الأرواح في قبضة الله عز وجل وليست في قبضتك: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) أي: افعل ما تريد أن تفعله في هذه الحياة الدنيا.