للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تلخيص ما تصمنه النصف الأول من سورة النور]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها الإخوة! ما زال الحديث في سورة النور، ووقفنا في المقطع الأول من هذه السورة والذي ينتهي بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:٣٤]، وقد ذكرنا أن النصف الأول من هذه السورة ابتداءً من قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:١] إلى هذه الآية كله يتكلم عن أمر واحد وهو: كيف نحفظ أخلاقنا وأخلاق المسلمين من الفساد؟ وكيف نحارب الزنا والفواحش؟ وما هي السبل التي تضمن لنا محاربة الفاحشة التي تفسد الأمة، وتفسد المجتمع، وتسقطه من عين الله عز وجل، فكان في مقدمة هذه الآيات قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور:١]، فكانت تلفت النظر، وختمت هذه الآيات بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:٣٤].

إذاً: ما في أول هذه الآيات وما في آخرها يدل على أهمية عظيمة لما تحتويه هذه الآيات العظيمة، لا سيما في مثل هذا العصر الذي فاض فيه المال، وكثر فيه الفساد، وانتشرت وسائل التقنية الحديثة التي استعمل كثير منها في معصية الله، وساعدت على وجود الفاحشة، وبالرغم من هذا كله فإن الله عز وجل يؤدب ويربي الأمة ألا يقربوا الفواحش، وألا يدنوا من مواطن الفساد والزنا الذي هو أعظم فاحشة بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى.

لذلك يأمر الله تعالى في هذه الآيات بجلد الزاني.

ولا يرتدع الناس في فاحشة الزنا إلا إذا كانت لها عقوبة، ومن هنا شرع حد القذف، وشرع الاستئذان، كما قال تعالى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:٢٧]، وفي هذا حماية البيوت من الدخول بدون استئذان.

وهكذا لا يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل بشهوة، وعلى كل واحد منهما أن يغض بصره، وأن يحصن فرجه؛ حتى لا تكون هذه الفاحشة.

وكذلك قال عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:٣٢]، أي: زوجوا كل من لم يتزوج؛ لأن الزواج فيه حصانة، وفيه حماية للأمة الإسلامية من مثل هذه الفواحش؛ ولذلك المجتمع الذي يعرض عن الزواج وتعنس فيه البنات وتكبر أسنانهن دون أن يتزوجن، ويصبح فيه الشباب عزاباً يكون مجتمعاً ينتشر فيه الفساد، وتنتشر فيه الفاحشة.

والمجتمع الذي يحارب الزواج أو الذي يحارب تعدد الزوجات بدافع المحافظة على المرأة وحماية حقوقها مجتمع يتعرض للفتن، ويتعرض للفواحش كلها، ولذلك ركز الله تعالى على هذه الأمور الخمسة في سورة النور في نصفها الأول؛ من أجل أن يؤدب الناس، وأن يعلمهم كيف يتخلصون من فاحشة الزنا التي تختلط فيها الأنساب، وتفسد فيها البيوت، وتسقط الأمة من عين الله سبحانه وتعالى.

إذاً: لما ذكر تلك الأمور الخمسة التي تضمن عدم وقوع الفاحشة ختم الآيات التي تختص بهذا الموضع بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور:٣٤] يشير بذلك إلى الآيات السابقة، والواو هنا واو القسم، واللام لام القسم، أي: أقسم الله عز وجل بأنه أنزل آيات بينات، أي: واضحات الدلالة على مراد الله عز وجل حينما أراد أن يعلم الناس كيف يكافحون الجريمة، وكيف يكافحون الفاحشة.

واسمحوا لي أن أبين لكم أن الجريمة في مفهوم العصر لا تعني إلا ما يضر بالناس، أما ما يضر بالدين فإنها لا تسمى في مفهوم العصر جريمة، وإنما تسمى ذنباً، ولذلك تجدون مكافحة الجريمة تنفصل عن مكافحة المعصية لله عز وجل، أما الجريمة في مفهوم الشرع الإسلامي فمعناها: اقتراف كل ما حرم الله عز وجل، ولذلك سمى الله تعالى الكافرين مجرمين، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:٢٩]، مع أنهم لا يضرون إلا بأنفسهم.

ثم ختم الله عز وجل هذه الآيات بقوله: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ) أيها الناس! أيها المسلمون! (آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ) أي: آيات شرعية نزلت من عند الله واضحة الدلالة على مراد الله عز وجل من هذه الأمة، (وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) المثل هو القول السائر، أي: وأنزل الله عز وجل أموراً كافية لردع البشرية وإيقافها عند حدودها، (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)، أي: هذه الآيات السابقة هي موعظة، لكن الموعظة لا يستفيد منها إلا المتقون، والمتقون هم الذين يمتثلون أوامر الله سبحانه وتعالى ويجتنبون نواهيه، أما غير المتقين فهم الذين لا يبالون بالحلال والحرام والفواحش، وإنما يريدون أن يشبعوا رغباتهم مما حرم الله، إضافة إلى ما أباح الله، ولا يتوقفون عند حد من الحدود، فهؤلاء ليسوا بمتقين؛ لأنهم لا يخشون الله، ولا يراقبونه، ولا يمتثلون أوامر الله، ولا يجتنبون نواهيه، وهؤلاء لا يستفيدون من هذه الموعظة، ولا يستفيد منها إلا المتقون، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً من المتقين الذين يتعظون بأوامر الله عز وجل ويمتثلونها، ويجتنبون نواهيه.