الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله الذي فاوت بين عقول البشر، فترتب على هذا التفاوت في العقول تفاوت في السعي والمقاصد، وجعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة في الله! اقتضت حكمة الله عز وجل أن يخلق الجنة والنار، وأن يخلق لكل واحدة منهما أهلاً، يخلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، كما اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يعمر هذه الحياة بالمخلوقات، ويعطيهم من العقول والأدلة ما على مثله يؤمن البشر، كما اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يقوم صراع عنيف منذ بدء الخليقة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، ابتداءً من الساعة التي أهبط الله عز وجل فيها آدم من الجنة، وقال:{اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}[البقرة:٣٦]، وما زالت هذه العداوة بين إبليس وذريته وبين آدم وذريته باقية وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وبناءً على هذه العداوة، وبناءً على تلك الحكمة الربانية كان الناس أصنافاً من البشر، وكان الناس معادن، وكانوا كالأرض التي يعيشون عليها: تربة تمسك الماء وتنبت الكلأ، وينفع الله بها الناس، وتربة تمسك الماء فتنفع الناس في شربهم، وتربة هي قيعان لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء.
ثم أقام الله عز وجل الحجة على كل البشر؛ بحيث لا تبقى حجة لأحد على الله عز وجل، ومن هنا قسم القرآن الناس إلى أحد عشر قسماً، وإن كانوا في الأصل قسمين: فريق في الجنة وفريق في السعير، لكن لما كان هناك تفاوت في درجات الخير وفي درجات الجنة، وهناك تفاوت أيضاً في مراتب الشر ودركات العذاب؛ قسم الله عز وجل هؤلاء البشر -كما تدل آيات القرآن- إلى أحد عشر قسماً، وكل واحد من هذه الأقسام الأحد عشر يقول الله عز وجل فيها:(وَمِنَ النَّاسِ)، (وَمِنْهُمْ)، (فَمِنْهُمْ)، وإذا جاءت:(وَمِنَ النَّاسِ)، (فَمِنَ النَّاسِ)، (وَمِنْهُمْ)، (فَمِنْهُمْ)؛ فإنما تعني أنواع البشر، بخلاف ما ورد في سورة التوبة؛ فإن كل آية وردت في سورة التوبة فيها {وَمِنْهُمْ}[التوبة:٤٩]-وهي في أربعة مواضع- فالمقصود بها المنافقون فقط، أما ما سواها في القرآن فإنها تعني أقسام الناس جميعاً.
وحينما نمر مروراً عابراً على هذه الأقسام الأحد عشر -ولعل بعضها يدخل في بعض- نجد العجائب في خلق الله، ونجد التفاوت في هؤلاء البشر، فمنهم من يعيش في القمة، ومنهم من يعيش في أسفل دركة من دركات هذه الحياة، ولذلك فإن المؤمن وهو يسمع أخبار القوم عليه أن يختار أفضل المراتب وأعلى المنازل، من أجل أن يكون في أعلاها يوم القيامة، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.